العبادة في الإسلام ليست طقساً من الطقوس التي يمارسها المرء متى شاء وكيفما شاء؛ وإنما هي الغاية الكبرى والهدف الأسمى الذي خلق الإنسان من أجله، كما قال ربنا سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56).
لقد كان رسول الله ﷺ يتوضأ فيرى الصحابة – رضي الله عنهم – وضوءه فيأخذون به من غير أن يبين أن هذا ركن وذلك أدب ..وكان ﷺ يصلي فيرون صلاته فيصلون كما رأوه يصلي ، وحج فرمق الناس حجه ففعلوا كما فعل..فهذا كان غالب حاله ﷺ ، ولم يبين أن فروض الوضوء ستة أو أربعة ، ولم يفرض أن يتوضأ إنسان غير موالاة حتى يحكم بالصحة أو الفساد إلا ما شاء الله..وقلما كان الصحابة يسألونه عن هذه الأشياء..فعن ابن عباس – رضي الله عنه – قال:” ما رأيت قومًا كانوا خيرًا من أصحاب رسول الله ﷺ ما سألوه إلا عن ثلاثة عشرة مسألة حتى قبض.
صحيح قد تطرأ بعض المتغيرات بسبب الاستغراق في كيفية العبادة..ومن أمثلة ذلك ما رواه أبو داود أن رفاعة بن رافع رض الله عنه عطس ، وهو يصلي خلف النبي ﷺ ، فقال بالجهر: “الحمدلله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه مباركًا عليه كما يحب ويرضى”..وبعد انتهاء الصلاة سأل النبي:”من المتكلم في الصلاة؟” فلم يرد عليه أحد، وعندما كرر النبي سؤاله ثلاث مرات، قال أبو رفاعة : أنا يا رسول الله ” فقال رسول الله :”والذي نفسي بيده لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملكًا يصعد بها .
وبعض هذا الفوارق قد تحدث لأن الأهمية في الإسلام لحقيقة العبادة وليست لأشكالها المجردة ، ولذلك تجاهل الرسول ﷺ عن بعض الفوارق البسيطة التي تحدث خلال أداء العبادة ، وأكد على الحقيقة الأساسية للعبادة ..فعن أسامة بن شريك – رضي الله عنه –قال: ” خرجت مع رسول الله ﷺ حاجًا فكان الناس يأتونه فمن قائل: يا رسول الله سعيت قبل أن أطوف أو أخرت شيئًا أو قدمت شيئًا ، فكان يقول: لا حرج إلا على مسلم اقترض عرض مسلم وهو ظالم فلك الذي حرج وهلك”.
إن القرآن الكريم يؤكد على أهمية الصلاة ولكنه لم يحدد شكلاً معينًا لها ، ونحن نعرف الشكل المعين للصلاة من السنة النبوية المشرفة ، التي تدلنا ، من تحديدها لأسس الصلاة ، على أن هناك تنوعًا وتوسعًا في الجزئيات..وهذا التنوع ليس ” نقصًا ” في الصلاة حتى نخترع فنًا لإصلاحه وتلافيه..إن هذا التنوع دليل على أن الصلاة عمل حي ..والعمل الحي لا يخضع للرتابة الآلية..وقد حاول الفقهاء – من وجهة نظري – بدون لزوم ، أن يقضوا على التنوع والتوسع الطبيعي ليحل محله نظامًا رتيبًا للعبادة.
إن هذا التدبير الاصطناعي حرم المصلين من فوائد الصلاة الحقيقية ومتعتها ، فأخذوا يظنون أن الصلاة شيء إضافي كالرياضة ، وليست هي المنبع الإلهي المقرر لتزويد الحياة بالحرارة والديناميكية التي لا بد أن تتحلى بها حياة المسلم.
الحق نقول: وإن كان الترجيح وإيجاد الرتابة في فروع العبادات مطلوبًا حقًا ، فلم يكن السبيل الذي سلكه الفقهاء – من وجهة نظري – هو السبيل الصحيح ..فالذي فعلوه هو أن قام كل فقيه مدرسة خاصة به وعكف على البحث والترجيح بجهود ذاتية شخصية ..وبما أن التنوع كان موجودًا بالفعل في العبادات ، فلم يكن ممكنًا لطبائع و عقول مختلفة أن تصل ببحوثها إلى نتيجة واحدة بشأن ترجيح شيء على آخر..فحين رجح فقيه ما شيئًا معينًا جاء فقيه آخر ليرجح الرأي المضاد ..وهكذا برزت هياكل وصور متعددة للعبادات بينما كان الهدف هو وضع هيكل واحد فقط.
والحل الأمثل في الحد من تضارب الفتاوى هو العمل بنظام “صوافي الأمراء ” ذلك المصطلح جميل الذي أغفلته كتب الغريب والمصطلحات والمضاف والمنسوب ، حيث كانت العادة التى جرى عليها الناس – قبل نشوء الفقهاء التقليديين – في أي قضية لا يجدون لها حكمًا صريحًا في القرآن والسنة ، فكانوا يرفعون الأمر إلى الحكام الذين كانوا ، بدورهم يجمعون العلماء فيحمون بما أجمع عليه العلماء..فهذا الأسلوب لا يمكن لأحد أن يشذ عنه أو يختلف بشأنه ..ثم أن هيبة البلاد تضمن القضاء على اختلاف ..ومن أمثلة هذا الأسلوب ماتم في صدر الإسلام الأول عند تدوين القرآن الكريم.. ولو لم يتم العمل تحت إشراف رسمي ، ولو عكف كتبة متعددون على تدوين القرآن الكريم باجتهاداتهم الشخصية ، لتعرضت الأمة لخلافات عظيمة ، ما كانت لتحل حتى قيام الساعة ..وهكذا ، لو كان ترتيب القضايا الفقهية أمرًا مطلوبًا فكان ينبغي أن يتم تحت إشراف إدارة أو هيئة للعلماء.. ومن أمثلة ذلك أنه عندما ثار الخلاف بين الصحابة حول عدد تكبيرات صلاة الجنازة جمعهم عمر الفاروق على أربع تكبيرات.. وكان عبدالله بن المقفع قد أشار على الخليفة العباسي المنصور أن يدون قانونًا متفقًا عليه ويصدر باسم الدولة العباسية.