شهد العصر العباسي نهضة حضارية عظيمة وحركة فكرية رائدة امتدت لتشمل العديد من المجالات، وكان لوعي الخلفاء والحكام ورعايتهم للعلم والفن والثقافة والأدب أكبر الأثر في تشجيع العلماء والأدباء والفقهاء والشعراء على الإجادة والإبداع، وإشعال الرغبة في الإجادة والتميز في نفوسهم حيث حظي العلماء والنابهون من الأدباء والفقهاء والشعراء بمكانة متميزة، ليس في بلاط الخلافة فحسب وإنما صارت لهم منزلة مرموقة في المجتمع كله. ومن بين هؤلاء العباقرة ثابت بن قرة.

وقد أدى هذا الاهتمام من جانب الخلفاء والحكام بالعلم والعلماء إلى ظهور عدد كبير من العلماء الأفذاذ الذين حملوا على عاتقهم تلك النهضة الحضارية الواعدة، وقادوا مسيرة العلم والتقدم، ودفعوا عجلة الحضارة الإسلامية تلك الدفعة القوية التي ظلت أصداؤها تتردد في ظلام أوربا لعدة قرون.

حركة الترجمة

وشهد ذلك العصر نهضة كبيرة في حركة الترجمة والنقل للعديد من الموسوعات والكتب العلمية القيمة التي كُتبت باللغات اليونانية والسريانية وغيرها إلى اللغة العربية، وكان ثابت بن قرة أحد كبار المترجمين الذين برزوا في مجال الترجمة في القرن (3هـ = 9م) وواحدا من أولئك النقلة العظام الذين قادوا حركة الترجمة والنقل وكانوا بمثابة الجسر الذي وصل ما بين الثقافة العربية من جهة والثقافات السريانية واليونانية والعبرية من جهة أخرى.

ولد ثابت بن قرة (سنة 221 هـ = 834 م) في حران من أرض الجزيرة شمال العراق، بتركيا الآن.

وكان في بداية حياته صيرفيا في حران، وكان من الصابئة قبل أن يسلم فوقعت بينه وبين أهل مذهبه أشياء وأنكروها عليه فحرّم عليه رئيسهم دخول الهيكل؛ فخرج ثابت من حران إلى “كفر توثا” وهناك لقي “محمد بن موسى شاكر” الذي كان قيّمًا على بيت الحكمة ببغداد فأعجب بذكاء ثابت ونبوغه وفصاحته؛ فاصطحبه معه إلى بغداد ووصله بالخليفة المعتضد الذي أكرمه وأغدق عليه العطايا والهبات وصارت له خطوة ومكانه عنده.

ثابت العالم والمترجم

كان ثابت بن قرة يجمع بين عدد كبير من العلوم، وقد نبغ فيها جميعا؛ فقد برع في الطب، كما نبغ في الرياضيات، وتفوق في الفلك، وأتقن عددا من اللغات التي يترجم وينقل منها في مهارة واقتدار، علاوة على إتقانه وتمكنه من اللغة العربية.. ومن ثم فقد جاءت ترجماته تتسم بالسهولة والوضوح، وعباراته سلسلة بسيطة.

وقد اتبع ثابت بن قرة في ترجماته أسلوب الترجمة بالمعنى دون التقيد بالألفاظ الأصلية، وذلك بأن يأتي إلى الجملة فيحصل معناها في ذهنه ويعبر عنها من اللغة الأخرى بجمله تطابقها سواء ساوت الألفاظ أو خالفتها؛ ولذلك فقد جاءت ترجماته أجود وأدق من الترجمة الحرفية التي قد يستغلق فيها المعنى ويلتوي المقصد.

ومن أهم ترجمات ثابت التي تعكس عمق ثقافته وموسوعية علمه واتساع معارفه:

– كتاب الكيموس لجالينوس.

– كتاب جغرافيا في المعمورة وصفة الأرض لبطليموس.

– كتاب الأرثماطيقي في علم العدد لينقوماخوس الجراسيني. (وقد ترجمه ثابت بعنوان: المدخل إلى علم العدد).

– كتاب الأصول الهندسية المنسوب إلى أرشميدس.

– كتاب الأشكال الكرّية لمنالاوس.

– كتاب المجسطي لبطليموس.

– كتاب الكرة المتحركة لأوطوليوقوس.

يعد ثابت أحد أعلام الرياضيات المعدودين في عصره، وقد تعددت إنجازاته في هذا العلم في العصر الذي عاش فيه، وامتدت آثاره العلمية وفتوحه في علم الرياضيات إلى العصور التالية له؛ حتى استحق أن يطلق عليه لقب “إقليدس العرب”.

ومن أهم إنجازاته في هذا العلم: دراساته القيمة عن الأعداد؛ حيث قسم الأعداد إلى قسمين: الأعداد الزوجية، والفردية، كما قسم العدد نفسه إلى أنواع ثلاثة:

العدد التام: وقد عرفه بأنه هو العدد الذي إذا جمعت أجزاؤه (عوامله) كانت مساوية لذلك العدد مثل العدد (6).

العدد الناقص: وهو العدد الذي يكون مجموع أجزائه (عوامله) أقل منه، مثل العدد (10).

العدد الزائد: وهو العدد الذي يكون مجموع أجزائه (عوامله) أكبر منه مثل العدد (12).

كما أوجد طريقة سهلة لاستخراج الأعداد المتحابة (أن يكون مجموع أجزاء –عوامل- كل منهما يساوى قيمة العدد الآخر).

وهو يعد أول شرقي بعد الصينيين بحث في المربعات السحرية وخصائصها.

عبقرية في الهندسة

وبرع ثابت في علم الهندسة حتى قيل عنه إنه أعظم هندسي عربي على الإطلاق، وقال عنه “يورانت ول”: إنه أعظم علماء الهندسة المسلمين؛ فقد ساهم بنصيب وافر في تقدم الهندسة، وهو الذي مهد لإيجاد علم التكامل والتفاضل، كما استطاع أن يحل المعادلات الجبرية بالطرق الهندسية، وتمكن من تطوير وتجديد نظرية فيثاغورث، وكانت له بحوث عظيمة وابتكارات رائدة في مجال الهندسة التحليلية؛ فقد ألف كتابا في الجبر، شرح فيه العلاقة بين الجبر والهندسة، وكيفية التوفيق بينهما، واستطاع أن يعطي حلولا هندسية لبعض المعادلات التكعيبية، وهو ما أفاد علماء الغرب فيما بعد في تطبيقاتهم وأبحاثهم الرياضية في القرن السادس عشر.

ومن مؤلفات ثابت الرياضية والهندسية:

– كتاب في الشكل الملقب بالقطاع.

– كتاب في مساحة الأشكال المسطحة والمجسمة.

– كتاب في قطوع الأسطوانة وبسيطها.

– مساحة المجسمات المكافية.

– قول في تصحيح مسائل الجبر بالبراهين الهندسية.

الطبيب الرائد

كما يعد ثابت أحد الأطباء العرب المبرزين، وأحد أعلام عصره المعدودين، بل إن تأثيره قد امتد ليصل إلى القرون التالية له؛ فقد ظلت آثاره مرجعا مهمًا لطلاب العلم والباحثين في أنحاء الدنيا لعدة قرون.

وكان ثابت من أوائل الرواد في جانب مهم من جوانب الطب لم يتطرق إليه كثير من الأطباء في عصره؛ فقد كان له اهتمام بالأمراض الجلدية، ومستحضرات وأدوية التجميل حيث تحدث عن الأمراض التي تصيب سطح جلدة الوجه مثل الكلف والقوابي، والآثار السود والبيض الناجمة عن الجدري.. كما تحدث عن القروح والبرص والحكة والبهق بنوعية: الأبيض والأسود، والسعفة والحزاز، وأمراض الشعر، وكذلك تحدث عن الهزال والسمنة وذكر أسبابها وآثارها ووسائل علاجها.

وتطرق إلى أمراض الرأس فذكر أنواع الصداع الذي يعتري الإنسان، كما تعرض لأنواع الشقيقة، وذكر ما يقوي الرأس وينقي الدماغ من الأدوية والأغذية، كما تحدث عن الأغذية الضارة بالرأس والدماغ والذهن، وأوضح الأثر الضار للدسم والدهون على صحة الإنسان، وكان له باع طويل في الأمراض العصبية والعقلية والنفسية، واستطاع أن يشخص السكتة والصرع ويفرق بينهما، كما وصف التشنج وذكر أسبابه وعلاجه، ووصف عددا من الأمراض النفسية مثل الماليخوليا.

وله أيضا دراسات وأبحاث في مجال الأمراض الجنسية وأمراض الذكورة، وذكر أسبابها وأوضح أعراضها، كما تناول أمراض النساء والتوليد فتحدث عن اختناق الأرحام، وإدرار الطمث وحبسه، وأسباب الحمل وانقطاعه، وعسر الولادة، وكيفية إخراج الجنين الميت والمشيمة.

واهتم أيضا بطب الأطفال، وله آراء قيمة في الكلام على زيادة اللبن وقطعه، والأمراض التي تصيب الأطفال كالحصبة والجدري.

تشريحه للعين

كما أثبت تفوقا ونبوغا في مجال طب العيون وتشريح العين، وهو في تشريحه للعين لا يبعد كثيرا عن التشريح الحديث لها بعد ظهور الآلات الحديثة الدقيقة والمعدات الطبية المتطورة، وقد تحدث ثابت عن بعض الأمراض التي تصيب العين كالرمد والمياه البيضاء والزرقاء، كما ذكر ما يعتري العين من جحوظ أو غور، وتحدث عن ضعف البصر وذكر أسبابه، وقدّم النصائح التي تقي منه.

وبرع ثابت كذلك في أمراض الأنف والأذن والحنجرة؛ فقد ذكر الأمراض التي تصيب الأذن وتعرض لأسبابها، وقدّم العلاج لها، وتحدث عن العلل التي تصيب الأنف من تغير رائحته وفقدان حاسة الشم، وما يصيب الجهاز التنفسي من أمراض كالربو والزكام والنزلة، وفرّق بدقة بين النزلة والزكام، ووصف بعض الأمراض التي تصيب الرئتين كالسل وتحدث عن أمراض القلب.

وتطرق أيضا إلى أمراض الفم والأسنان؛ فذكر علل الأسنان وعلاجها، ووصف تركيب الأسنان ووظائفها، وتحدث عن أمراض اللثة وطرق علاجها.

وأتى ثابت بمعلومات دقيقة في مجال أمراض الكلى والمثانة؛ فقد تحدث عن أسباب تولد الحصى في الكلى والمثانة، وذكر المواد والأغذية التي تسبب ذلك، وأثر تراكم تلك الجزئيات الصغيرة من المواد العالقة والأملاح في تكوين الحصوات.

وتعرض لأسباب إدرار البول، وذكر العديد من الأدوية والأغذية المدرّة للبول، وتحدث عن التبول اللإرادي، وبيّن بعض الأسباب العضوية المسببة له مثل ضعف المثانة عند الأطفال والشيوخ، أو حدوث أورام أو جروح.

مؤلفاته الطبية

واهتم ثابت كذلك بدراسة الجهاز الهضمي والأمراض التي تصيبه مثل انتفاخ المعدة والخفقان المعدي، وفقدان الشهية والعطش المفرط، والمغص وأمراض القولون والأمعاء، وأمراض الكبد وما يصاحبها من أعراض كالصفرة وفقدان الشهية، كما تحدث عن السموم وأنواعها والأوبئة والأمراض المعدية وأسباب انتشارها، وطرق العدوى ووسائل الوقاية منها.

ومن مؤلفاته الطبية:

– كتاب الذخيرة في علم الطب.

– كتاب في علم العين وعللها ومداواتها.

– كتاب في الجدري والحصبة.

– كتابة الروضة في الطب.

– رسالة في توليد الحصاة.

– مقالة في صفات كون الجنين.

– رسالة في اختيار وقت لإسقاط النطفة.

تحديده لطول السنة النجمية

أما في علم الفلك فقد كان لثابت أرصاد مهمة قام بها في بغداد في حساب ميل دائرة البروج، كما وضع نظرية الاهتزاز الأرضي، وتتجلى دقة ثابت وبداعته في استخراج حركة الشمس وحساب طول السنة النجمية فكانت عنده 365 يوما و6 ساعات و9 دقائق و10 ثوان، وهو ما يزيد عن الحساب الحديث لطول السنة بأقل من نصف الثانية، وذلك بالرغم من عدم وجود الأجهزة الحديثة والمعدات التقنية المتطورة المتوافرة الآن.

ومن أهم مؤلفاته الفلكية:

– رسالة في حساب رؤية الأهلة.

– رسالة في حركات النيّرين.

– مختصر في علم النجوم.

– رسالة في سنة الشمس بالأرصاد.

– كتاب في آلات الساعات التي تسمى رخامات.

– كتاب في حساب خسوف القمر والشمس.

وبعد حياة حافلة بالعلم والعطاء توفي ثابت في (26 من صفر 288 هـ= 19 من فبراير 901م) عن عمر بلغ 76 عاما، تاركا ثروة لا تنتهي، وكنزًا لا ينفد من العلم والمعرفة.


سمير حلبي