يتبين من خلال التعريفات المتعددة للأمن الاجتماعي أن هذا المصطلح سواء عند الغرب والمسلمين يدور حول قضية أساسية هي تحقيق الرفاهية والأمان للأفراد الذي ينسحب تأثيره على أمن المجتمع ككل، ذلك أن نواة المجتمع هي أفراد من البشر الذين يستقرون في إقليم يمتلكون هوية مستقلة، وإذا كان الأمن قيمة اجتماعية  تقترن بالحياة الإنسانية فإن الشرع الحنيف قد شدد على أهميته وضرورة توفيره، وهو من أكبر النعم التي تستدعي الشكر والفكر، واعتبره أمرا أساسيا في الوجود، فإن الدين والدنيا لا يقومان إلا بالأمن، قال الله تعالى: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)) [قريش]. يقول جيهان: “فالحاجة إلى الأمن حاجة أساسية؛ لاستمرار الحياة وديمومتها وعمران الأرض التي استخلف الله تعالى عليها بني آدم ، وانعدام الأمن يؤدي إلى القلق والخو ويحول دون الاستقرار والبناء ، ويدعو إلى الهجرة والتشرد، وتوقف أسباب الرزق مما يقود إلى انهيار المجتمعات ومقومات وجودها ؛لذا كان من الأهمية بمكان”[1].

ولعل سورة قريش بكامل آياتها تضرب مثُلا عليا عن الأمن في التصور الشرعي، وتضع أساسا كليا لمقومات الأمن الاجتماعي وأسباب بقائه وديمومته في أي مجتمع، فقد أفصحت السورة عن العلاقة الكامنة في الأمن الاجتماعي بين جزأيه المادي والمعنوي، الدنيوي والأخروي، وهذا البيان نلاحظه من خلال أداة الشرط المقدر في قوله تعالى (.. فليعبدوا).

فقد اتفق أرباب المفسرين المهتمين بالبيان البلاغي واللغوي للقرآن الكريم أن حرف (الفاء) في قوله (فليعبدوا) دليل وإشارة على ما تتضمنه الآية من معنى الشرط، يقول ابن عاشور: “فالفاء الداخلة في قوله: ليعبدوا مؤذنة بأن ما قبلها في قوة الشرط، أي مؤذنة بأن تقديم المعمول مقصود به اهتمام خاص وعناية قوية هي عناية المشترط بشرطه، وتعليق بقية كلامه عليه لما ينتظره من جوابه، وهذا أسلوب من الإيجاز بديع”[2]. والتقدير: لتعبد قريش رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف.

سورة قريش تشير إلى نوع العلاقة الاجتماعية التي تجمع بطون قريش (وهم ولد النضر بن كنانة)، حيث تبوأت قبيلة قريش مكانة التعظيم والتشريف بين العرب بسبب نعمة الإيلاف المذكورة في السورة، وهي الأمان عند خروج قوافلها، وذلك أن قبيلة قريش استقر بها المقام في مكة وهي أرض صخرية خالية من الزرع والضرع، وكانت حياتهم التجارة لجلب البضائع والأرزاق، فكانت تسافر في العام رحلتين؛ رحلة إلى اليمن شتاء، لجلب العطور والبهارات الآتية من الهند والخليج، وهي بلاد حارة، وأخرى في الصيف إلى الشام لأنها بلاد باردة، لجلب الحبوب الزراعية، وكانوا يربحون في أسفارهم، ويجلبون احتياجاتهم من الأطعمة والثياب والأمتعة، فطاب المقام بأهل مكة في هذا الطقس الصعب بهذا التصرف التجاري الناجح، والإيلاف الذي امتن به عليهم.

انتعشت تجارات قريش في هذه الرحلات لما نالهم من العناية الربانية التي ترافقهم، حيث لا يغار على قوافلهم ذهابا وإيابا، وكان الناس يقدرون منزلتهم ومقامهم في بيت الله الحرام حتى بات مثلا يسير به الركبان: قريش أهل بيت الله عز وجل وجيرانه.

وهذا الأمن والاستقرار في الرحلات وجلب البضائع المختلفة وتحقيق الرغد والرفاهية في العيش لا تكتمل صورته إلا بتوفير الشعور بالطمأنينة النفسية في الوطن، والضمان من الهجمات والغارات الخارجية، وهو حفظ الأمن الداخلي، فكان من تمام المنن الإلهية على أهل مكة أن جعل بلادهم أمانا وسلاما بأهله، فأهلك أبرهة الحبشي وجيشه، فازداد شرف قريش وتوقيرهم في القلوب، وهذا ما لاحظه الرازي في ربطه بين سورتي الفيل وقريش، حيث حقق الله الإنعام على قريش بشقيه على أهل مكة، صدّ أصحاب الفيل دفعا للضرر عنهم، ودفع الضرر عن النفس واجب، والإنعام عليهم بالبيت الحرام لجلب النفع وهو غير واجب، فجمع الله تعالى بين النعمتين العظيمتين، في هاتين السورتين جمعا بين الواجب وغيره، لتحقيق الكمال والإتمام.

وهذه المنن الإلهية لأهل مكة تستوجب شكر المنعم والمتفضل سبحانه، وكان أعلى مقامات الشكر العبادة والتذلل لله تعالى خالصا من الشريك والمثيل، فكان الأمان الحقيقي هو الذي يجمع بين الدنيا والدين لينال منه العبد الأمن الحقيقي، يستلذ في معاشه بما سخره الله تعالى من الخيرات والطيبات، ويريح قلبه بالنجوة مع الله في الصلوات والخلوات، بهذين الجناحين تكتمل صورة الأمن الاجتماعي.

فقد ناسب هذا المقام ما ذكره الماوردي حين وصف الألفة وأسبابها، فجمع بين الدين وأسباب دنيوية أخرى بناء على ما ينتج عن ذلك من الاستقرار ودوام الأمن فقال: “إذا كانت الألفة .. تجمع الشمل وتمنع الذل، اقتضت الحال ذكر أسبابها. وأسباب الألفة خمسة وهي: الدين والنسب والمصاهرة والمودة والبر.”.. واعتبر السبب الأول الذي هو الدين أقوى الأسباب على التناصر والألفة حين يجتمع عليه أفراد المجتمعات، وأقوى على الفرقة والاختلاف حين يتباين الناس فيه، وهذا الكلام يتوجه في حالة قريش حيث جاء الإسلام يذكرهم بالألفة التي وهبهم إياها، ووضع لهم شرط مداومة النعمة وهو العبادة الصحيحة في قوله: (فليعبدوا). فالتآلف في رحابة الإيمان أدوم لنعمة الأمن الاجتماعي يقول  الماوردي: “قد يختلف أهل الدين على مذاهب شتى وآراء مختلفة فيحدث بين المختلفين فيه من العداوة والتباين مثل ما يحدث بين المختلفين في الأديان. وعلة ذلك أن الدين والاجتماع على العقد الواحد فيه لما كان أقوى أسباب الألفة، كان الاختلاف فيه أقوى أسباب الفرقة”[3].


[1]  محمد، جيهان الطاهر، التأصيل الشرعي للأمن الاجتماعي في القرآن الكريم والسنة النبوية والفقه الإسلامي، جامعة حائل، 1433هـ  – 2012م.

[2]  التحرير والتنوير (30/555).

[3]  أدب الدنيا والدين (148).