سبق الحديث عن مصادر أموال رسول الله ﷺ وثروته وطريقه في الكسب، وبيان ضرورة المال في الحياة الإنسانية، ورسول الله بشر معصوم كان يعيل أسرته في ماله ويصل رحمه ويحسن التودد إلى الناس، كما يحسن التجمل لأهله وللوفود، وقد صدق – ﷺ – حين قال: “خيركم خيركم لعياله وأنا أخيركم لعيالي”، لهذا السبب وما يتبعه أو ينضم إليه من الأحداث في سيرة النبي أثبتنا خلال حلقات سابقة أنه ﷺ كان يكتسب ليكفي مؤنته وحاجة أهله وضيفه، ولم يكن يتكفف الناس، كما أنه لم يكن فقيرا ضعيفا، بل الصحيح أنه كان غنيا ميسور الحال زاهدا، والشواهد من الأدلة على هذه الحقيقة كثيرة، مروية في كتب الصحاح من السنن والمسانيد.
ولنا أن نتوقف مليا مع حادثة هي شاهدة حال يحكيها لنا عبد الله بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يقول: “إن عمر بن الخطاب، رأى حلة سيراء عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله لو اشتريت هذه، فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك، فقال رسول الله ﷺ: «إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة».. الحديث[1]. والحلة السيراء المذكورة في هذه الحادثة كانت حريرا غير جائز ارتداؤها للرجال من المسلمين. وفي هذا الحديث إشارة إلى حب النبي ﷺ التجمل والتزين بأحسن الثياب واقتنائه إياه لهذا الهدف حسب مصالحه الدنيوية الخاصة.
ولما كان أحد مقاصد بعثة النبي ﷺ التشريعية بيان ما جاء في الكتاب العزيز مصداقا لقوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل: 44] بالغ ابن عاشور فجعل تبيين الرسول ﷺ لما جاء في القرآن من الأحكام والأخلاق كأنه العلة الأصلية في إنزال القرآن، وهذا البيان يتمثل في سنة الرسول ﷺ وسيرته بل يأخذ حكم الأصل وهو القرآن لذلك جاء في الحديث: (ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه). فكان هدي النبي ﷺ في موضع البيان والتوضيح.
ويستدعي هذا البيان أن نقف فنلتمس هدي النبي ﷺ في الزكاة، كيف كانت حالته وهديه ﷺ من حيث أداء حق المال الذي هو الزكاة؟
1 – وصف ابن القيم في زاد المعاد هدي النبي ﷺ في الزكاة والصدقة بأنه أكمل الهدي في وَقتِهَا وَقَدْرِها ونِصَابِها، ومَنْ تَجِبُ عليه ومَصْرِفِها، رَاعَى فيها مصلحةَ أربابِ الأموالِ ومصلحةَ المساكين، ففرض في أموالِ الأغنياءِ ما يَكْفِي الفقراءَ مِنْ غَيْرِ إجحافٍ.
2-جعل الزكاة واجبة في أربعة أصناف من المال لأنها أكثر الأموال دورانا بينهم في عهده، وحاجتهم إليها ضرورية.
أحدها: الزرع والثمار.
الثاني: بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم.
الثالث: الجوهران اللذان بهما قوام العالم وهما الذهب والفضة.
الرابع: أموال التجارة على اختلاف أنواعها.
3- جعل وجوب أداء الزكاة مرة كل عام وذلك في غير المزروعات والثمار، وجعل حول الزروع والثمار عند كمالها واستوائها. يقول ابن القيم: “وهذا أعدل ما يكون، إذ وجوبها كل شهر أو كل جمعة يضر بأرباب الأموال، ووجوبها في العمر مرة مما يضر بالمساكين، فلم يكن أعدل من وجوبها كل عام مرة”.
4-حدد مقادير الواجب من الزكاة بحسب اجتهاد أرباب الأموال وتحصيلها وسهولة ذلك وصعوبته، فأوجب الخمس في الركاز (20%) دون الاعتبار بالحول، وأوجب نصف الخمس وهو العشر في الثمار والزروع إذا كان حرث الأرض بكلفة أقل (10%)، ونصف العشر فيما كان سقيه بالكلفة والدوالي والعمال (5%).
5 –وأوجب ربع العشر (2.5%) في التجارات لأن كلفة التداول والإدارة وما يتصل بالتجارات أعظم.
6 – وكان من هديه ﷺ إذا علم من الرجل أنه من أهل الزكاة أعطاه، وإن سأله أحد من أهل الزكاة ولم يعرف حاله، أعطاه بعد أن يخبره أنه لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب..
7 –وكان من هديه تفريق الزكاة على المستحقين الذين في بلد المال، وما فضل عنهم منها حملت إليه ففرقها هو ﷺ
8 – ولم يكن من هديه أن يبعث سعاته إلا إلى أهل الأموال الظاهرة من المواشي والزروع والثمار.
9 – وكان يبعثُ الخَارِصَ يخرُصُ على أهل النخيلِ ثَمَرَ نَخِيلِهم، وعَلَى أَهْلِ الكُروم كُرُومهم، ويَنْظُر كَمْ يجيء منه وسقًا[2]، فيحسِب عليهم من الزكاةِ بقدرِه، والخرص: الحزر والتخمين.
10 – ولم يكن من هديه أخذ الزكاة من الخيل والرقيق، ولا البغال ولا الحمير، ولا الخضراوات، ولا المباطخ والمقاثي والفواكه التي لا تكال ولا تدخر إلا العنب والرطب، فإنه كان يأخذ الزكاة منه جملة ولم يفرق بين رطبه ويابسه.
11 – ولم يكن مِنْ هَدْيِهِ أخْذُ كرائِمِ الأموالِ، بل وسَطَه.
12 –وكان ينهى المتصدِّقَ أَنْ يشتريَ صدقتَه، وكان يُبيحُ للغني أن يأكلَ منها إذا أهداها إليه الفقير.
13 – وكان يستدينُ لمصالح المسلمينَ عَلَى الصدقةِ أحيانًا، وكان يستسلفُ الصدقةَ مِنْ أَرْبَابِهَا أحيانًا.
14 –وكان إذا جاءَ الرَّجُلُ بالزَّكَاةِ دَعَا له، يقول: ((اللَّهُمَّ بَارِك فيه وفي إِبِلِه)) [ن]، وتارة يقول: ((اللهم صَلّ عليه)) [ق].
15 –أما صدقة التطوع فقدكان ﷺ أعظم الناس صدقة بما ملكت يده، وكان لا يستكثر شيئا أعطاه لله تعالى، ولا يستقله، وكان لا يسأله أحد شيئا عنده إلا أعطاه، قليلا كان أو كثيرا، وكان عطاؤه عطاء من لا يخاف الفقر، وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه، وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذه، وكان أجود الناس بالخير، يمينه كالريح المرسلة.
[1] أخرجه البخاري (886)، ومسلم (2068). ومعنى قوله (لا خلاق له في الآخرة) من لا نصيب له في الآخرة إشارة إلى تحريمه على الرجال من المسلمين.