تعرف العلوم الاجتماعية بأنها المناهج العلمية التي تدرس أصول نشأة المجتمعات البشرية والمؤسّسات ومختلف العلاقات والروابط الاجتماعية وكذا المبادئ المؤسّسة للحياة الاجتماعية؛ وتشمل العلوم الاجتماعية علم الاجتماع، وعلم النفس، والعلوم السياسية، والاقتصاد، والتاريخ، والقانون، وعلم الإجرام، وعلم النفس الاجتماعي، والأنتروبولوجيا، … إلخ.
والمتأمِّل في القرآن الكريم يجد مساحة واسعة ذات الصلة بهذه العلوم، وإلى هذا المعنى يشير عماد الدين خليل في حديثه عن التاريخ مثلًا من بين العلوم الاجتماعية، فيقول: «إنّ ثمّة حقيقة أساسية تبرز واضحة في القرآن الكريم، تلك هي أنّ مساحة كبيرة في سوره وآياته قد خصصت المسألة التاريخية التي تأخذ أبعادًا واتجاهات مختلفة، وتتدرج بين العرض المباشر والسرد القصصي الواقعي لتجارب عدد من المجتمعات البشرية، وبين استخلاص يتميّز بالتركيز والكثافة للسنن التاريخية التي تحكم حركة الجماعات عبر الزمان والمكان، مرورًا بمواقف الإنسان المغايرة من الطبيعة والعالم، وبالصيغ الحضارية التي لا حصر لها… وتبلغ هذه المسألة حدًّا من الثقل والاتساع في القرآن الكريم بحيث إنّ جُلّ سوره لا تكاد تخلو من عرض لواقعة تاريخية، أو إشارة سريعة لحدثٍ ما، أو تأكيد على قانون أو سنة تتشكل بموجبها حركة التاريخ».
«وإذا ما أضفنا إلى المساحة التاريخية الواسعة في القرآن مسألة أخرى ترتبط بالتاريخ ارتباطًا عضويًّا؛ لأنها ملامسة وتعقيب وتعليق وإعادة صياغة وتوجيه لحشد من الوقائع التاريخية، تلك الآيات القرآنية التي يحدثنا عنها المفسرون في موضوع أسباب النزول، والتي جاءت في أعقاب عددٍ كبيرٍ من أحداث السيرة لكي تعلِّق وتفنِّد وتلامس وتبني وتوجِّه وتصوغ، انطلاقًا من هذه الأحداث التي لم تبرد دماؤها بعدُ، سواء على مسرح الأرض أم في حسّ الجماعة والإنسان المسلم… إذا ما أضفنا هذه الآيات المنبثَّة في ثنايا القرآن، والتي تختصّ بها أحيانًا مقاطع طويلة وسور كاملة استطعنا أن نتبيّن أكثر فأكثر أبعاد المساحات الشاملة التي منحها القرآن الكريم للمسألة التاريخية، «أيّ سورة قرأت، أيّ صفحة شاهدت، طالعتك هذه العروض والإشارات المسهبة أو الموجزة إلى مواقف تاريخية».
ويشكِّل القصص القرآني أبرز مساحة تاريخية اجتماعية، وهذا ما جعل أحد الباحثين يشبهه بالمختبرات البشرية يقول: «إنّ ما ورد في القصص القرآني، يشكِّل مختبرات بشرية خالدة مجردة عن حدود الزمان والمكان من الناحية الاجتماعية، كما يشكّل منجمًا لاغتراف الثقافة الاجتماعية والعلوم الاجتماعية…».
وبنحو ذلك تحدّث عمر عبيد حسنة عن القصص القرآني بأن القرآن جعل منه «المختبر البشري التاريخي لصِدقِيَّة ويقينيَّة واطِّراد القوانين والسّنن الاجتماعية التي أكّدها القرآن وأوقف عليها الأمّة الخاتمة؛ لتتبين قوانين السقوط والنهوض، وتأخذ العبرة والعظة، وتتحقق الوقاية الحضارية مهتدية بقوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ}[آل عمران: 137، 138].
إنّ نصوص الوحي المعصومة تحدّثت عن مجتمع الأنبياء والعوامل النفسية والمادية على شكلِ معادلات اجتماعية أشبه ما تكون بمعادلات العلوم المادية، بل لقد تجاوزت الحقائق اليقينية التي تترتب على المقدمات في العلوم المادية إلى الكلام عن العواقب والمآلات التي سوف تنتهي إليها المجتمعات التي تتحكم فيها بعض العادات والممارسات الـمُفضِيَة إلى الهلاك.
إنّ طلب السير في الأرض والنظر في العواقب والمآلات جعله النصّ الإلهي من الفروض الكفائية التي تُفْضِي إلى التّبَيُّن والتبصُّر والاهتداء إلى السنن الاجتماعية في السقوط والنهوض، واختزال التاريخ الإنساني وتحقيق الاعتبار وإضافته إلى عمر الأمة المسلمة وتجربتها؛ لتحقق بذلك الوقاية الحضارية وتتّعظ بأحوال السابقين».
الخلاصة هي أن المادة الاجتماعية في القرآن الكريم واسعة ومظانها كثيرة، ونشير هنا بإجمال إلى بعضها:
1-آيات الأحكام الاعتقادية التي تشكِّل المرجع والمؤطِّر العَقدي للفكر والعمل، وتبيِّن العلاقة التي تربط العقيدة بنوازع الإنسان إلى الفعل، وإلى أيّ حدّ يكون السلوك اعتقاديًّا وتكون العقائد سلوكية، وتكشف عن مدى تبعيّة الموقفَين: العملي، والفكري. للموقف العقدي وعن كونهما الواقع الحركي المجسّد للعقيدة، وتمكننا فيما بعد من تسليط الضوء على الوظيفة الاجتماعية للعقيدة، ومعرفة الوجه الذي تكون به الإرادة الحضارية طوعًا لها.
2- آيات الأحكام الشرعية العملية التي هي أشبه ما تكون بوصفات الحِمْيَة والأدوية المتوفرة لكلّ الأدواء الممكنة الوقوع، والحالات التي قد يكون عليها المريض، فهي من جهة تسهر على وقاية النظام الاجتماعي من السقوط في براثين الأوحال الحضارية، ومن جهة أخرى توفّر في حالة تعثّره أو سقوطه العلاجات المناسبة.
3-الآداب والأخلاق الاجتماعية المُثلَى والتخلُّقات الحسنة التي ينبغي احتذاؤها في جانب المعاملات، وهو جانب يمنح للإنسان قاعدة صلبة تمكنه من الانطلاق بقوة إلى اتخاذ المواقف الصحيحة في الحياة الاجتماعية على اختلاف وتنوّع مظاهرها، ويتعلق الأمر أيضًا بما تنطوي عليه العديد من الآيات من فوائد عمليّة تدلّ عليها المعاني التبعية التي أودعها الله فيها.
4- الأمثال والقصص التي تضمنت «نماذج لنهوض الأمم وعلّلَتْ أسباب النهوض، وقدَّمت نماذج لعوارضه وأمراضه، وبيَّنت طريق السقوط، والانقراض الحضاري، وقدَّمت نماذج للطغيان والظلم السياسي، وطرق حماية المسلم من السقوط على أقدام الظَّلَمَة، وبينت مآل هذا السقوط وعواقبه، وقدَّمت نماذج للظلم والطغيان الاجتماعي، والمصير الذي انتهى إليه؛ قدَّمت نماذج للترَف والبَطَر، والكِبْر، وسائر الأمراض والأوبئة الاجتماعية المُؤْذِنة بالخراب والتدمير».
وإذا تساءلنا مَن المؤهَّل للكشف عن كلّ هذا؟ سيكون الجواب: الاتجاه الاجتماعي في التفسير. ولكن بالمقابل لا يمكن أن ينخرط فيه إلَّا مَن له إلمامٌ واهتمام بالعلوم الاجتماعية؛ ليلتقط الإشارات المبثوثة في النصّ القرآني، لكن دون أن يكون أسيرًا لهذه العلوم الاجتماعية، وإلَّا صار عمله بحثًا عن الشواهد والأدلة لِمَا قاله الناس.
* مأخوذ من بحث ” الاتجاه الاجتماعي في التفسير، ودوره في تأصيل العلوم الاجتماعية” للأستاذ الدكتور مولاي عمر بن حماد منشور كاملا في موقع مركز تفسير للدراسات القرآنية