كان الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله، ذا بيان أدبي مشرق، وعبارات بليغة رائقة. وإذا نظرنا لكتاباته وجدناها في المقدمة من عيون النثر المعاصر، وروائع الأدب الديني الأخَّاذ.. حتى إن الحِكَم البليغة والعبارات الموجزة المكثفة لتتناثر بين كتاباته، وتجيء على طرف لسانه وقلمه بعفوية وصدق وإتقان، كأنما أمضى الساعات الطوال في سبكها ونظمها.. وهو فوق نثره البديع، له باع في الشعر، نظمًا واستحضارًا، وله ديوان منشور بعنوان (الحياة الأولى).
ولهذا، لم يكن غريبًا على الشيخ أن تكون له قراءة تجديدية لتراثنا الأدبي، قديمًا وحديثًا، وأن تكون له نظرات مهمة في تدريس اللغة العربية وتيسير شرحها خاصة للناشئة، على غرار الآداب الأوروبية التي أُخرجت لذويها في حلل قشيبة لامعة.
وهذه بعض ملامح القراءة التجديدية الغزالية للغة اللعربية وآدابها:
– أشاد الغزالي بالأسلوب الذي تَعلَّم به اللغة العربية في الأزهر؛ والذي يقوم على شرح القاعدة وسوق الدليل عليها من الكتاب أو السنة أو التراث الجاهلي والمخضرم وأوائل التاريخ الإسلامي.. بما جعل هذه الشواهد “زادًا فكريًّا وعاطفيًّا عامرًا بأنواع المشاعر والأمزجة وصور الحس والأداء العالي.. مثل قول الشاعر:
وفِتيانِ صدقٍ لستُ مُطلِعَ بعضهم .. على سِر بعض غير أنى جِماعُها
وقول الآخر:
وليلٍ كموج البحر أَرخَى سُدولَه *** عليَّ بأنواع الهموم ليَبْتَلى!
فالبيت الأول يصف أمانة الكلمة واحترام الأسرار؛ والبيت الثاني يصف ليل المهموم”([1]).
– لكنه مع هذه الإشادة.. دعا إلى تطوير الدرس اللغوي والأدبي، مشيرًا إلى خلو “دروس النحو والصرف والبلاغة إجمالاً من التطبيقات والأمثلة التي لابد من أن تكون كثيرة وفيرة؛ فكان ذلك طعنة نافذة إلى اللغة وتداولها”([2]).
– أوضح الغزالي أن مدرسة الجارم ومن بعده “عالجت هذا الموضوع علاجًا جيدًا، وكان لها جهد مقدور في ترقية الأداء العربي وتقويته؛ ولكن هذه المدرسة اضمحلت مع ضغط الاستعمار الثقافي، وانتصار التفاهات في شتى الساحات”([3]).
– لاحظ الغزالي أن “قاعدتي النحت والاشتقاق كادتا تكونان معطلتين في مواجهة الحضارة الحديثة الزاحفة علينا ماديًّا وأدبيًّا، كما لاحظت أن هناك خلطًا قبيحًا بين تعليم اللغة العربية للعرب وللأعاجم مسلمين أو غير مسلمين. وهناك فوضى في تعليم جموع التكسير، وضبط المصادر القياسية والسماعية، واشتقاق الأفعال بين المضارع والماضي”([4]).
– دعا إلى تيسير قواعد اللغة، مقارِنًا- بشيء من الأسف- حالنا مع لغتنا بحال الآخرين مع لغاتهم، فقال: “واللغة العربية لغة متشعبة القواعد، وتعليمها يحتاج إلى معاناة ومشقة، وعلينا أن نخترع طرقًا لتيسير قواعدها وضبط أصواتها؛ ونحن نرى الإنكليز في عصرنا يفعلون العجب في تعميم لغتهم، ويبتكرون الحيل الطريفة لتحبيبها إلى النفوس، حتى أصبحت الإنكليزية لغة العالم ولغة العلم معًا. أما نحن فلا نفعل شيئًا من ذلك حتى غُزينا في عقر دارنا، وأخذت اللغات الأخرى تغير علينا، وتكتسح لغتنا في مواطنها الأولى”([5]).
– رصد الشيخ الغزالي أربعة عوامل تهان اللغة العربية من قِبلها:
1- الروايات التمثيلية التي تحكى عبارات السوقة والطبقات الجاهلية.
2- القادة الذين لا يحسنون الفصحى.. ولا نعرف لغة في أرجاء الأرض يتحدث رؤساؤها بهذه الطريقة.
3- الأشخاص الذين يقلدون المنتصر، والذين ذابت شخصياتهم ذوبانًا تامًّا، فيرون من الرقِّي أن يكون حديثهم بأي لغة إلا العربية!
4- الطَّامة الكبرى في رجال المجامع الذين يرون العربية تنهار أمام ألفاظ الحضارة المحدثة، ومصطلحات العلوم الكثيرة، ومع ذلك فهم لا يحركون ساكنا، مع أن العربية في خطر حقيقي!!([6]).
– دعا الغزالي إلى تعريب المصطلحات العلمية، من خلال لجان متخصصة، وإلى عدم استخدام الكلمات الأجنبية، مُنبِّهًا على ضرورة إشعار الجماهير بأن ترك العربية الفصحى في مهب الريح كبيرة من الكبائر، وأن الأمة التي تفقد لغتها كالفتاة التي تفقد عرضها، وأن المسلمين مكلفون بالدفاع عن العربية ضد كل هجوم؛ لأن الهجوم في مراحله الأخيرة يتجه إلى وحي الله([7]).
– أيد الأصوات المطالبة بتعريب الطب، كاشفًا أن زَعْمَ نفرٍ من القاصرين أن ترجمة الطب والهندسة وغيرهما صعبة أو متعسرة، سَتْرٌ للعجز العلمي والخلقي. وقال: “إنني أحتقر أي امرئ يطعن العربية دون غيرها من اللغات الأوربية أو الآسيوية؛ وهي لغات انتقل إليها الطب ولم تنتقل هي إلى الطب. إن التأثر الخسيس بالاستعمار الثقافي من وراء تدريس بالروسية، ولو انتصرت إسرائيل فسيكون التدريس بالعبرية”([8]).
– هاجم الشيخ الغزالي الشعر المنثور والشعر المرسل، فقال: “إذا لمحت عيني ما يسمى بالشعر المنثور تجاوزته على عجل؛ لأني من طول ما بلوته يئست أن أجد فيه معنى جادا، أو شعورا صادقا، أو فكرة واضحة”([9]). وقال عن الشعر المرسل: “أكرهتني الأيام على سماع هذا اللغو من بعض الإذاعات، أو قراءته في بعض المجلات، فماذا وجدت؟ تقطُّعًا عقليًّا في الفكرة المعروضة كأنها أضغاث أحلام أو خيالات سكران! ثم يُصب هذا الهذيان في ألفاظ يختلط هزلها وجدُّها، وقريبها وغريبها، وتراكيب يقيدها السجع حينًا وتهرب قيوده أحيانًا؛ ثم يوصف المشرف على هذا المخلوط الكيماوي المشوش بأنه شاعر!”([10]).
إذن، مثَّل الاهتمام باللغة العربية وآدابها مَعْلمًا بارزًا من معالم “القراءة الغزالية”؛ لأنه يدرك أن العناية بالعربية عناية بالقرآن الكريم ذاته- الذي أنزله الله تعالى (قُرْآنًا عَرَبِيًّا)- ومدخلٌ لفهمه وتدبره.. وأن الحرب على الفصحى، حرب على الإسلام من طرف خفي.. وأن غربة العربية في بلادها، تقطع الطريق أمام استئناف الشهود الحضاري، وتمنع من معاودة النهضة من جديد؛ لأن هذه الغربة تفصل الأمة عن تراثها وعلومها وتاريخها.
فدعا رحمه الله للعناية بالعربية وآدابها، ولتحصينها ضد المصطلحات الأجنبية الوافدة، ولتعريب العلوم.. رافضًا ما يقال عن أن “استعمال اللغة العربية يعزلنا عن العالم المتقدم- المنشئ للعلوم الحديثة- ويجعلنا غير قادرين على الاتصال بهذا العالم والتأثر به أو التأثير فيه”([11]).
وأكد الغزالي أن “التأثير في العالم واحتلال مكان بارز فيه؛ لن يكون إلا عن طريق بناء الوحدة الثقافية للأمة، والارتباط بالجذور التاريخية لها”([12]).
والشيخ وهو يعتز بالعربية وآدابها، لا “ينكر فائدة- بل وضرورة- تعليم اللغات الأجنبية الحية بطريقة جادة وعميقة لكل الأجيال الجديدة؛ لكن ذلك شيء واستعمال اللغة القومية شيء آخر”([13]). ويشير إلى أنه يقرأ ما يُترجم من الشعر الأجنبي؛ ليتعرف على ألوان الحس التي تخامر شتى الأجناس، وليصل الرحم الإنسانية بينه وبين الآخرين([14]).
فأين هذه الرؤية التجديدية من المشتغلين بالدعوة ولا يحسنون نطق جملة، ولا التعبير عن بيان الإسلام الرائق، فضلاً عن مطالعة الآداب الأجنبية بعين فاحصة معتزة بتراثها ولغتها؟! وأين هي ممن يذوبون في ألسُنِ الآخرين وعقولهم، وينسحقون أمام آداب وافدة، فاقدين الاتصال بجذورهم وهويتهم؟!
وهكذا نرى أن الشيخ الغزالي قدَّم ملامح مهمة في تطوير درسنا اللغوي والأدبي، وفي صدِّ الهجمة على لساننا وهويتنا.. بما يكشف عن مكانة الغزالي الأدبية وذائقته اللغوية، بجانب غيرته الشديدة على لغة القرآن: اللغة الشريفة.
([1]) “تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل”، الغزالي، ص: 186، دار الشروق، ط5، 2003م.
([2]) المصدر نفسه، ص: 188.
([3]) المصدر نفسه، ص: 188.
([4]) المصدر نفسه، ص: 188، 189.
([5]) “مشكلات في طريق الحياة الإسلامية، الغزالي، ص: 89، كتاب الأمة رقم (1)، ط3، 1402هـ، قطر.
([6]) المصدر نفسه، ص: 91، باختصار.
([7]) “تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل”، الغزالي، ص: 191، باختصار.
([8]) المصدر نفسه، ص: 191، 192.
([9]) “مشكلات في طريق الحياة الإسلامية”، الغزالي، ص: 100.
([10]) المصدر نفسه، ص: 103، 104.
([11]) المصدر نفسه، ص: 95.
([12]) المصدر نفسه، ص: 95.
([13]) المصدر نفسه، ص: 95.
([14]) المصدر نفسه، ص: 100.