إدراك الشيء قوة أو ضعفا أوعدما يأتي على مراتب خمسة:

الأولى: العلم، هو إدراك الشيء على حقيقته إدراكا جازما، فالوصول إليه يأتى من الجهتين:

أ- إما بلا استدلال وبيان، وهو علم ضروري الذي يهجم القلب بلا استئذان، وله تعلق بالحواس الخمس – السمع والبصر واللمس والشم والذوق – كرؤية الشمس وحرارتها…الخ

ب- وإما باستدلال وتفكير دقيق، وهو علم نظري مكتسب، وتجد المحدثين يقولون: إن الحديث إذا احتفت به القرائن يكتسب العلم اليقينى النظري، كما هو حال أغلبية أحاديث الصحيحين.

الثانية: الظن: هو إدراك الشيء وفق دليل راجح، وفيه غلبة الظن الذي يناهز العلم.

وعرفه الراغب بأنه: “اسم لما يحصل عن أمارة، ومتى قويت أدت إلى العلم، ومتى ضعفت جدا لم يتجاوز حد التوهم”.[1]

عن الضحاك قال: “كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين، ومن الكافر فهو شك”[2].

الثالثة:الوهم، وهو إدراك الشيء وفق دليل مرجوح

الرابعة: الشك، منزلة الشك بين منزلتي الظن والوهم، وهو إدراك الشيء على وجهين متساويين محتملين، ولا مرجح لأحدهما على الآخر.

الخامسة: الجهل، قد يكون الجهل بسيطا، وهو عدم العلم بشيء نهائيا، كمن سئل عن اسم أبي بكر الصديق فيقول: لا أدرى.

وقد يكون الجهل مركبا، وهو إدراك الشيء على خلاف الواقع، كمن سئل اسم أبي بكر الصديق فيقول: عبد الرحمن. والصحيح: عبد الله.

غلبة الظن كافية العمل

نقل ابن تيمية اتفاق العلماء المعتبرين على العمل بالظن الغالب في الأحكام الشرعية.يودونك كتب الأحكام الفقهية من قديم الدهر وحديثه، وترى في طياتها معظم الأحكام جارية على غالب الظن.

ونحو ذلك عند أهل العلم بالحديث في أحكامهم الحديثية، سواء على الراوي أو المروي.

يقول الخطيب:” الطريق إلى معرفة العدل المعلوم عدالته مع إسلامه وحصول أمانته ونزاهته واستقامة طرائقه، لا سبيل إليها إلا باختبار الأحوال وتتبع الأفعال التي يحصل معها العلم من ناحية غلبه الظن بالعدالة.”[3] وهذا في حق رواة الأخبار

وقال فيما يتعلق بالخبر المفيد للظن:” ما لا يوجب – يعني العلم – من الأخبار، فيصح دخول التقوية والترجيح فيها إذا لم يمكن الجمع بينها في الاستعمال لتعارضها في الظاهر.

وإنما يصح دخول الترجيح فيها لأنها تقتضي غلبة الظن دون العلم والقطع، ومعلوم أن الظن يقوى بعضه على بعض عند كثرة الأحوال والأمور المقوية لغلبته، فصح بذلك تقوية أحد الخبرين على الآخر بوجهٍ من الوجوه؛ فتارة بكثرة الرواة، وتارة بعدالتهم وشدة ضبطهم، وتارة بما يعضد أحد الخبرين من الترجيحات »[4] وكذا العمل في بقية العلوم.

خصائص القول الراجح

وصف القول بأنه قول راجح؛ أمر اجتهادي نسبي تختلف فيه الأفهام من عالم إلى عالم، وما اختاره الحنفية راجحا من الأقوال قد يكون مرجوحا عند الشافعية أو العكس، ولكن يبقى أن للقول الراجح سيمات لا تخفى في الغالب، وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن السعدي في كتابه المختارات الجلية أربع علامات من خواص القول الراجح وهي: سهولة فهمه، وسهولة تطبيقه، وانضباط مسائله على الأصول الشرعية، وقلة الاستثناءات الواردة عليه، وزيادة التوضيح على هذه الخواص فيما يلي:

1. سهولة الفهم

فهم القول وإدراك مضامنه هو الذى يورث الاطمئنان في القلب.

مثاله: خطبة الجمعة بغير العربية

جاءت أقوال المذاهب الأربعة مختلفة في إشراط الخطبة أن تكون بالعربية؛ بعد اتفاقهم على أن الأولوية للغة العربية، وليس ثمة أدلة صحيحة صريحة في المسألة سوى الأفهام، ولا شك أن المتبادر في الذهن أن الغرض من خطب الجمعة هو تذكير الناس وإرشادهم وتعليمهم، فإلقائها بالعربية لغير العرب لا تحقق ذلك المقصد الشرعي.

 ولذا يقول ابن عثيمين:” الصحيح في هذه المسألة أنه يجوز لخطيب الجمعة أن يخطب باللسان الذي لا يفهم الحاضرون غيره، فإذا كان هؤلاء القوم ليسوا بعرب، ولا يعرفون اللغة العربية، فإنه يخطب بلسانهم ؛ لأن هذا هو وسيلة البيان لهم، والمقصود من الخطبة هو بيان حدود الله سبحانه وتعالى للعباد، ووعظهم، وإرشادهم، إلا أن الآيات القرآنية يجب أن تكون باللغة العربية ، ثم تفسر بلغة القوم
ويدل على أنه يخطب بلسان القوم ولغتهم قوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم)

فبين الله تعالى أن وسيلة البيان إنما تكون باللسان الذي يفهمه المخاطبون، فعلى هذا له أن يخطب باللسان غير العربي، إلا إذا تلا آية فإنه لا بد أن تكون باللسان العربي الذي جاء به القرآن، ثم بعد ذلك يفسر لهؤلاء القوم بلغتهم “[5]

2. سهولة التطبيق أي قول تصعب ترجمته في الواقع حقيق ألا يوصف بالراجح، لأن الغاية المقصودة من ترجيح القول هي العمل، وكل قول في تطبيقه عسر وغيره أولى منه.

مثاله: إزالة النجاسة بكل مزيل

يتضح رجحان القول بإزالة النجاسة بأي مزيل من حيث التطبيق، لأنه أكثر انسجاما بالواقع من القول بتعيّن إزالة النجاسة بالماء فحسب.

وانظر موضوع التنظيف الجاف الذى “هو عبارة عن إزالة النجاسة والأوساخ بمزيل سائل غير الماء مع استعمال بخار الماء.

وهذا التنظيف الجاف العادة والغالب يلجأ إليه في الملبوسات التي تتأثر بالماء أي أن الماء يفسدها، وقد نص شيخ الإسلام وغيره على أن الأشياء التي إذا تنجست ويضر استعمال الماء فيها أنه يكفي فيها المسح مثل الأوراق النقدية، أو الأوراق والوثائق أصابتها نجاسة فإن ذهبت وغسلتها بالماء فسدت عليك، ومثَّل شيخ الإسلام بأثواب الحرير فلو غسلت لأدى ذلك إلى فسادها فهذه يقول شيخ الإسلام يكفي فيها المسح.

فكل شيء إذا تنجس يؤدي غسله بالماء إلى تلفه أو فساده أو مضرته … إلخ فإنه يكفي فيه المسح، فالآن وجد غير المسح الآن وجد هذا التنظيف الجاف أو مغاسل البخار”[6] وقس على هذا أيضا مسألة تطهير ومعالجة مياه الصرف الصحي.

3. انضباط مسائله على الأصول الشرعية

مما يتميز به القول الراجح: وضوح جريانه على الأصول الشرعية ومقاصدها

مثاله: عدم جواز النكاح بنية الطلاق

القول بعدم جواز النكاح بنية الطلاق تسعفه الأصول الشرعية العامة التى تحرم الخداعة والكذب والتدليس في الأنكحة والمعاملات وغيرهما.

يقول المجمع الفقهي :الزواج بنية الطلاق وهو: زواج توافرت فيه أركان النكاح وشروطه وأضمر الزوج في نفسه طلاق المرأة بعد مدة معلومة كعشرة أيام، أو مجهولة ؛ كتعليق الزواج على إتمام دراسته أو تحقيق الغرض الذي قدم من أجله.
وهذا النوع من النكاح على الرغم من أن جماعة من العلماء أجازوه، إلا أن المجمع يرى منعه؛ لاشتماله على الغش والتدليس. إذ لو علمت المرأة أو وليها بذلك لم يقبلا هذا العقد.

ولأنه يؤدي إلى مفاسد عظيمة وأضرار جسيمة تسيء إلى سمعة المسلمين.
والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه”[7]

4. قلة الاستثناءات الواردة عليه

كثرة الاستثناءات للقول تضعفه، وقلتها أو عدمها تقويها تجاه قول آخر.

مثاله: بقاء عموم النهي الوارد عن عدم الجلوس في المسجد قبل الإتيان بالركعتين.

تعد ندورة وقوع الاستثناءات في القول بجواز أداء الركعتين – ولو في أوقات النهي – قبل الجلوس في المسجد؛ من علامات رجحان القول والجنوح إليه، مقارنة بالرأي المخالف القائل بعمومات النهي عن الصلاة في أوقات النهي.

وإنه قد استثني من النهي عن الصلاة في أوقات الصلاة بعض الصور، مثل صلاة الركعتين بعد الطواف، وكذا من نسي الصلاة أو نام عنها له أن يصليها في أي وقت، وغير ذلك من الاستثناءات الواردة على هذا القول.

ومن خصائص القول الراجح أيضا:

5. وضوح قوة الأدلة

قوة الأدلة ثبوتا ودلالة هي تدفع باحث الحق أن يبصر ويرجح بين الأقوال المتعارضة.

مثاله: اختلاف العلماء في مسألة تعامل المسلم بالربا إذا دخل دار الحرب بأمان.

نجد صراحة قوة أدلة المنع في قوله تعالى: ﴿وأحل مضاعفة الله البيع وحرم الربا﴾ … ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا …﴾  وما قاله جابر رضي الله عنه: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه. وقال هم سواء[8]

وقوله صلى الله عليه وسلم: “فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء”[9] وغير ذلك من عمومات الكتاب وصحاح السنة الواردة في حرمة الربا مطلقا، سواء في الأشخاص أو البلدان.

وفي المقابل نجد ضعف مأخذ القول بالجواز، والذى مستنده الحديث الضعيف الذي رواه مكحول – وهو تابعي – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا ربا بين أهل دار الحرب. وقال النووي :مرسل ضعيف فلا حجة فيه.[10]
وما قيل من علامات القول الراجح فعكسها تقال في خواص القول المرجوح


 [1] المفردات في غريب القرآن ص:539

[2] – الجامع للأحكام 7/200

[3] – الكفاية ص:78

[4] – المصدر السابق ص:372

[5] – فتاوى نور على الدرب” فتاوى الصلاة/صلاة الجمعة

[6] – موقع الشيخ محمد بن موسى الدالي/ خزانة الفقه

[7] – مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي في الدورة الثامنة عشرة، القرار الخامس بتاريخ 12/3/1427

[8] – رواه مسلم (1598)

[9] – المصدر السابق (3073)

[10] – المجموع 9 / 392