التوكل على الله سبحانه وتعالى لا يمنع من الأخذ بالأسباب فالمؤمن يتخذ الأسباب من باب الإيمان بالله وطاعته فيما يأمر به من اتخاذها، ولكنه لا يجعل الأسباب هي التي تنشئ النتائج فيتوكل عليها، فالتوكل: هو قطع النظر في الأسباب بعد تهيئة الأسباب، كما قال صلى الله عليه وسلم: اعقلها وتوكل.

ففي جانب الأسباب يقول الله تعالى :”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ” (النساء: 71) . وقال تعالى:”وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ” (الأنفال: 60)  وقال تعالى:”فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ” (الجمعة: 10)

وفي جانب التوكل، قال تعالى:”وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ” (آل عمران: 122) . وقال تعالى:”فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ” (آل عمران: 159) . وقال تعالى:”وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ” (المائدة: 23) .

ولقد أرشدنا النبي صلى اله عليه وسلم في أحاديث كثيرة إلى ضرورة الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله تعالى، كما نبه صلى الله عليه وسلم على عدم تعارضها، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماساً، وتعود بطانا. في هذا الحديث الشريف حث على التوكل مع الإشارة إلى أهمية الأخذ بالأسباب، حيث أثبت الغدو والرواح للطير مع ضمان الله تعالى الرزق لها.

إن العمل بسنة الأخذ بالأسباب من صميم تحقيق العبودية لله تعالى، وهو الأمر الذي خلق له العبيد، وأرسلت به الرسل، وأنزلت لأجله الكتب، وبه قامت السماوات والأرض، وله وجدت الجنة والنار، فالقيام بالأسباب المأمور بها محض العبودية.

إن القرآن الكريم أرشدنا إلى الأخذ بالأسباب وأرشدنا ألا نعتمد عليها وحدها وإنما نتوكل على الله مع الأخذ بها، وعلى المسلم أن يتقي في باب الأسباب أمرين:

الأمر الأول:  الاعتماد عليها، والتوكل عليها، والثقة بها ورجاؤها وخوفها، فهذا شرك يرقُّ ويغلظ وبين ذلك.

ــ الأمر الثاني: ترك ما أمر الله به من الأسباب، وهذا أيضاً قد يكون كفراً وظلما وبين ذلك، بل على العبد أن يفعل ما أمره الله به من الأمر، ويتوكل على الله توكل من يعتقد أن الأمر كله بمشيئة الله، سبق بها علمه، وحكمه، وأن السبب لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع ولا يقضي ولا يحكم، ولا يحصل للعبد ما لا تسبق له به المشيئة الإلهية ولا يصرف عنه ما سبق به الحكم والعلم، فيأتي بالأسباب إتيان ما لا يرى النجاة والفرج والوصول إلا بها، ويتوكل على الله توكل من يرى أنها لا تنجيه ولا تحصل له فلاحاً ولا توصله إلى المقصود، فيجرد عزمه للقيام بها حرصاً وإجتهاداً، ويفرغ قلبه من الاعتماد عليها والركون إليها تجريداً للتوكل وإعتماداً على الله وحده. وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين هذين الأصلين في الحديث الصحيح، حيث يقول: “احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز. فأمره بالحرص على الأسباب والاستعانة بالمسبب ونهاه عن العجز وهو نوعان:

ــ النوع الأول : تقصير في الأسباب وعدم الحرص عليها.

ــ النوع الثاني : وتقصير في الاستعانة بالله وترك تجريدها.

فالدين كله ظاهره وباطنه وشرائعه وحقائقه تحت هذه الكلمات النبوية.

إن القول بالتنافي بين التوكل والأخذ بالأسباب جهل بالدين، وهذا من قلة العلم بسنة الله في خلقه وأمره، فإن الله تعالى خلق المخلوقات بأسباب، وشرع للعباد أسباباً ينالون بها مغفرته ورحمته وثوابه في الدنيا والآخرة، فمن ظن أنه بمجرد توكله مع تركه ما أمره الله به من الأسباب يحصل مطلوبه، وأن المطالب لا تتوقف على الأسباب التي جعلها الله أسباباً لها فهو غالط.

الأصل أن يستعمل العبد الأسباب التي بينها الله تعالى لعباده وأذن فيها وهو يعتقد أن المسبب هو الله سبحانه وتعالى، وما يصل إليه من المنفعة عند استعمالها بتقدير الله عز وجل، وأنه إن شاء حرمه تلك المنفعة مع استعماله السبب فتكون ثقته بالله واعتماده عليه في إيصال تلك المنفعة إليه مع وجود السبب .

وبالتتبع لما قاله العلماء في التوازن بين المقامين نجد أن جمهورهم يقررون أن التوكل يحصل بأن يثق المؤمن بوعد الله، ويوقن بأن قضاءه واقع ولا يترك اتباع السنة في ابتغاء الرزق مما لا بد له منه من مطعم ومشرب وتحرز من عدو بإعداد السلاح وإغلاق الباب ونحو ذلك، ومع ذلك فلا يطمئن إلى الأسباب بقلبه، بل يعتقد أنها لا تجلب بذاتها نفعاً ولا تدفع ضراً، بل السبب والمسبب فعل الله تعالى والكل بمشيئته، فإذا وقع من المرء ركون إلى سبب قدح في توكله.

الأخذ بالأسباب في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم:

فعلى مستوى السنة الفعلية ثبت أنه صلى الله عليه وسلم ظاهر في الحرب بين درعين، ولبس على رأسه المغفر، وأقعد الرماة في الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجر هو وتعاطى أسباب الأكل والشرب وادّخر لأهله قوتهم، ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك، ومع كل ذلك لا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مال إلى شيء من الأسباب غفلة مقدار طرفة عين.

والمثال النبوي الفعلي لهذا التوازن ـ على وجه التفصيل حادث الهجرة الذي اصُطحب فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقد استوفيا هما الاثنان في هذه الهجرة الأسباب المتاحة جميعها، لم يغفلا واحداً منها.

إن من تأمل حادثة الهجرة، ورأى دقة التخطيط فيها، ودقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، ومن مقدّماتها إلى ما جرى بعدها، يدرك أن التخطيط المسدّد بالوحي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائماً، وأن التخطيط جزء من السنة النبوية، وهو جزء من التكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم، وأن الذين يميلون إلى العفوية، بحجة أن التخطيط وإحكام الأمور ليسا من السنة، أمثال هؤلاء مخطئون، ويجنون على أنفسهم، وعلى المسلمين.

فعندما حان وقت الهجرة للنبي صلى الله عليه وسلم، شرع النبي صلى الله عليه وسلم في التنفيذ، نلاحظ الآتي:

وجود التنظيم الدقيق للهجرة حتى نجحت، برغم ما كان يكتنفها من صعاب، وعقبات، وذلك أن كل أمر من أمور الهجرة كان مدروساً دراسة وافية، فمثلاً:

جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر، في وقت شدة الحرّ ـ الوقت الذي لا يخرج فيه أحد ـ بل من عادته لم يكن يأتي إليه في ذلك الوقت، لماذا؟ حتى لا يراه أحد.

إخفاء شخصيته صلى الله عليه وسلم في أثناء مجيئه للصّدّيق وجاء إلى بيت الصّدّيق متلثماً، لأن التلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم الوجه المتلثم.

أمر صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يُخرج من عنده، ولما تكلّم لم يبين إلا الأمر بالهجرة دون تحديد الاتجاه.

كان الخروج ليلاً، ومن باب خلفيّ في بيت أبي بكر.

بلغ الاحتياط مداه، باتخاذ طرق غير مألوفة للقوم، والاستعانة في ذلك بخبير يعرف مسالك البادية، ومسارب الصحراء، ولو كان ذلك الخبير مشركاً، مادام على خُلُق ورزانة، وفيه دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يحجم عن الاستعانة بالخبرات مهما يكن مصدرها.

انتقاء شخصيات لتقوم بالمعاونة في شؤون الهجرة، ويلاحظ أن هذه الشخصيات كلها تترابط برباط القرابة، أو برباط العمل الواحد، مما يجعل هؤلاء الأفراد، وحدة متعاونة على تحقيق الهدف الكبير.

وضع كل فرد من أفراد هذه الأسرة في عمله المناسب، الذي يجيد القيام به على أحسن وجه، ليكون أقدر على أدائه والنهوض بتبعاته.

فكرة نوم علي بن أبي طالب رضي الله عنه مكان الرسول صلى الله عليه وسلم فكرة ناجحة، قد ضلّلت القوم، وخدعتهم وصرفتهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى خرج في جنح الليل تحرسه عناية الله، وهم نائمون، ولقد ظلت أبصارهم معلقة بعد اليقظة، بمضجع الرسول صلى الله عليه وسلم، فما كانوا يشكّون في أنه ما يزال نائماً مُسجّى في بردته، في حين النائم هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وقد كان عمل أبطال هذه الرحلة على النحو التالي:

ـ عليّ رضي الله عنه: ينام في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم، يخدع القوم، ويُسلّم الودائع، ويلحق بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك.

ـ عبد الله بن أبي بكر: رجل المخابرات الصادق، وكاشف تحركات العدو.

ـ أسماء ذات النطاقين: حاملة التموين من مكة إلى الغار، وسط جنود المشركين، الذين يبحثون عن محمد صلى الله عليه وسلم ليقتلوه.

ـ عامر بن فهيرة : الرّاعي البسيط الذي قدّم اللحم واللبن إلى صاحبي الغار، وبدد آثار أقدام المسيرة التاريخية بأغنامه كي لا يتفرسها القوم، لقد كان هذا الرّاعي يقوم بدور الإمداد، والتموين، والتّعمية.

ـ عبد الله بن أريقط: دليل الهجرة الأمين، وخبير الصحراء البصير ينتظر في يقظة إشارة البدء من الرسول صلى الله عليه وسلم، ليأخذ الركب طريقه من الغار إلى يثرب، فهذا تدبير للأمور على نحو رائع دقيق، واحتياط للظروف بأسلوب حكيم، ووضع لكل شخص من أشخاص الهجرة في مكانه المناسب، وسد لجميع الثغرات، وتغطية بديعة لكل مطالب الرحلة، واقتصار على العدد اللازم من الأشخاص من غير زيادة ولا إسراف، لقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بالأسباب المعقولة، أخذاً قوياً حسب استطاعته وقدرته، ومن ثم باتت عناية الله متوقعة.

وأما على مستوى السنة القولية في هذا الصدد ـ نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “فر من المجذوم فرارك من الأسد” ، في الوقت الذي ثبت فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل مع المجذوم. وظاهر الحديثين يدل على التنافي بين التوكل والأخذ بالأسباب، إلا أنه عند التحقيق نجد أنه صلى لله عليه وسلم أكل مع المجذوم ليبين أن الله هو الذي يمرض ويشفي، وأنه لا شيء يعدي بطبعه، نفياً لما كانت الجاهلية تعتقده من أن الأمراض تعدي بطبعها من إضافة إلى الله، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم اعتقادهم ذلك، في حين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاقتراب من المجذوم، ليبين أن هذا من الأسباب التي أجرى الله تعالى العادة بأنها تقتضي إلى مسبباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي فعله إشارة إلى أنها لا تستقل، بل الله هو الذي إن شاء سلبها قواها، فلا تؤثر شيئاً، وإن شاء أبقاها فأثرت، وفي ذلك فسحة لمقام التوكل على الله، وهذا يبين أن لكل حالة مقامها التي شرعها الله عز وجل لها. ومن ذلك ما ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرَّ بقوم فقال: من أنتم؟ قالوا: المتوكلون. قال: أنتم المتواكلون، إنما التوكل رجل ألقى حبه في بطن الأرض وتوكل على ربه عز وجل.

إن اتخاذ الأسباب أمر ضروري وواجب، ولكن لا يعني ذلك دائماً حصول النتيجة، ذلك لأن هذا أمر يتعلق بأمر الله ومشيئته، ومن هنا كان التوكل أمراً ضرورياً وهو من باب استكمال اتخاذ الأسباب. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعد كل الأسباب، واتخذ كل الوسائل، ولكنه في الوقت نفسه مع الله، يدعوه ويستنصره أن يكلل سعيه بالنجاح، وهنا يُستجاب الدعاء، وينصرف القوم بعد أن وقفوا على باب الغار وتسيخ فرس سراقة في الأرض ويكلل العمل بالنجاح.


المصادر والمراجع:

* علي محمد محمد الصلابي، الإيمان بالقدر، دار المعرفة، بيروت، ط2، (2011)، صفحة 265:253.

* محمد السيد محمد يوسف، التمكين للأمة الإسلامية في ضوء القرآن الكريم، صفحة 252.

* مجدي محمد عاشور، السنن الإلهية في الأمم والأفراد في القرآن الكريم، 215، 217.

* إبراهيم علي أحمد، في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، صفحة 141.

* توفيق محمد سبع، أضواء على الهجرة، صفحة 393، 397