ثمة مفاهيم يجب أن تصحح في ساحة المصطلحات العلمية، وإذا ما استطعنا التفريق بين المعانى الاصطلاحية عند أصحابها، فإنه سيساعد كثيرا منا على تجنب الأخطاء والتخبط في مقام التعلم والتعليم، ومقام العمل والتطبيق، والمصطلح الذي نريد البحث عنه هو السنة، حيث يختلف مفهوم السنة النبوية بين معان متنوعة حسب التخصصات التي تتناولها، ولهذا التوسع في مفهوم السنة وجدت بعض الغموض وصعوبة الضبط لدي بعض الناس لا سيما العوام منهم، سواء على الصعيد العلمي أو العملي، وفي الأسطر الآتية إلقاء الضوء على بعض جوانب منهج التعامل مع السنة النبوية.

السنة في المصطلحات العلمية    

ترد كلمة السنة في كتب الإسلام في موارد متعددة نظرا للأغراض والمجالات والمقاصد المتنوعة، إذ هي التي تمثل مدار شرائع الدين كله بعد كتاب الله عز وجل، وهي خير الهدى وأتمه.

والسنة في كتب اللغة العربية تعني المنهج والسيرة والطريقة والطبيعة والدوام والعادة، وإذا أُطلقت انصرفت إلى الطريقة المحمودة، وإنما تأتي مقيدة إذا أريد بها طريقة سيئة،[1] كما في قوله : « من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».[2]

وفي كتب العقيدة تعني ضد البدعة والإحداث في الدين، ومن هنا جاء تعبيرهم: أهل السنة والجماعة وفلان من أهل السنة.

وقد سئل الحافظ ابن الصلاح رحمه الله :قال بعضهم عن الإمام مالك رضي الله عنه إنه جمع بين السنة والحديث، فما الفرق بين السنة والحديث؟

فأجاب رضي الله عنه :السنة هنا ضد البدعة، وقد يكون الإنسان من أهل الحديث وهو مبتدع، ومالك رضي الله عنه جمع بين السنتين، فكان عالما بالسنة، أي الحديث، ومعتقدا للسنة، أي كان مذهبه مذهب أهل الحق من غير بدعة والله أعلم “[3]

وقد أُلِّفت مؤلفات كثيرة باسم السنة حاوية مسائل الأصول الاعتقادية التي خالف فيها أهل البدعة أهل السنة والجماعة، مثل كتاب السنة للإمام أحمد وغيره.

وفي كتب علوم القرآن تعني قسيم القرآن من حيث كونها نصا شرعية مثل القرآن تماما، وكذا في تفسير القرآن تعني الحكمة، ولذا يقول الإمام الشافعي رحمه الله:” ذكر الله الكتاب، وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله؛ لأن القرآن ذُكر وأُتْبِعَتْه الحكمة”[4]

وفي كتب الأصول تعني مصدرا من مصادر الاستنباط للأحكام الشرعية الإجمالية، ومن ذلكم قولهم: “ما رسم ليحتذى” وقد يكون أمرا وجوبيا أو مستحبا، وقد يكون نهيا تحريميا أو كراهيا.

وفي كتب الفقه تعني ما لا يرقى إلى مرتبة الوجوب من الأحكام الشرعية، ويثاب على فعله ولا يعاقب على الترك، ومن ألقابها الفقهية: المندوب، والمستحب، والتطوع، والنافلة، والفضيلة، والرغيبة.

وأما في واقع كتب الحديث؛ تعني كل شيء صدر عن النبي حتى قبل البعثة، والحديث والخبر والأثر مترادفات لاسم السنة عند المحدثين في المآل، ولذا قد تدخل آثار الصحابة في مسمى السنة عندهم.

وكتب الحديث أكثر شمولا للسنة النبوية واستيعابا لها، وكل بغية أصحاب الفنون موضوع فيها، وهي المرجع الوحيد الملبي لحاجات الاختصاصات الأخرى.

فالاختلاف الحاصل هنا اختلاف مدرسي تنوعي وليس اختلافَ تضاد، أي من باب إرادة المعاني المندرجة تحت عبارة واحدة، فإنما يحسن بالقارئ عندما يقرأ في قضايا ذات الصلة بالسنة النبوية، أن يكون على بينة من المعنى المراد حسب الاختصاص.

 مقام التطبيق والتعليم والدعوة

إن عدم التفصيل والتوضيح النظري والعلمي في التعامل مع إطلاقات كلمة السنة من أسباب التخبط والتخليط والشطط في التصرفات تجاه النصوص الشرعية، ومن صورها:

السنة دائما مندوب

قصر نظر الكثير في كتب الفقه، وضيق أفقهم، جعلهم متأثرين -على البديهة- بتنزيل السنة منزلة دون الواجب والفرض على الدوام، وإذا سمعوا للوهلة الأولى لفظ “سنة” من السنن لا يرفعون بها رأسا ولا وزنا، وأدى ذلك إلى فشو عدم الاهتمام بالسنة في أوساط المسلمين.

ولك أن تنظر سنة الأكل والشرب باليمين والأخذ والإعطاء باليمين مثلا، وإن ديدن الكثيرين على التساهل السافر في الالتزام بهذه السنة مع صراحة النهي النبوي المعلل «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله»[5] وقوله عليه الصلاة والسلام:”ليأكل أحدكم بيمينه، وليشرب بيمينه، وليأخذ بيمينه، وليعط بيمينه؛ فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله، ويعطي بشماله، ويأخذ بشماله[6]”  ألا يؤذن هذا الأمر بوجوب الأكل والشرب باليمين وبوجوب بالإعطاء والأخذ باليمين لقرينة العلة المذكورة.

إن حمل معنى السنة على الاصطلاح الفقهي دائما؛ كان مسلكا واسعا إلى بوابة هجران السنن، وتقليل من شأنها في بعض النفوس، ومن ثم انخفضت درجة الجدية التي تدفع للعمل، وحري بكل مسلم ألا يحتقر شيئا من السنن، بل يحتفل به دوما بالحب احتفالا مجيدا ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

يقول الإمام أحمد:” ما كتبت حديثا عن النبي إلا وقد عملت به، حتى مر بي الحديث أن النبي احتجم وأعطى أبا طيبة دينارا، فأعطيت الحجام دينارا حتى احتجمت”[7] وإن الإحساس بقيمة السنة النبوية والحفاظ عليها من علامات السعداء في الدارين.

السنة دائما واجبة التطبيق

اتفقت الكلمة على أن المباح من حيث هو؛ أنه لا حرج ألبتة في فعله أو تركه، وليس له تعلق بالثواب أو العقاب، أو المدح أو الذم أصالة.

وإذا تقرر هذا، فإنه قد يرد في السنة النبوية أمور تجري مجرى المباح لا أكثر، وتسمى أحيانا إباحة شرعية.

وعن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس يزعم قومك أن رسول الله قد رمل بالبيت وأن ذلك سنة، قال صدقوا وكذبوا، قلت: وما صدقوا وما كذبوا؟ قال: صدقوا، قد رمل رسول الله وكذبوا ليس بسنة.[8] أي من الأمور المباحة وليس بسنة العبادة.

“ومن فروع هذه المسألة: جلسة الاستراحة في الصلاة، والرجوع من صلاة العيد في طريق أخرى غير التي ذهب فيها إلى صلاة العيد، والضجعة على الشق الأيمن بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح، ودخول مكة من كَداء – بالفتح والمد – والخروج من كُدى – بالضم والقصر – والنزول بالمحصّب بعد النفر من منى، ونحو ذلك”[9].

ولو تعمد الإنسان ترك مثل هذه السنن العادية أو المندوبة لا ينكر عليه ولا يؤثم، لاسيما إذا تركها مراعاة لتأليف القلوب، وتدرجا في الدعوة، ودرئا للفتنة وحفاظا على الوحدة تبعا للسياسة الشرعية.

وبعض الناس ينظر إلى السنن نظرة واحدة، من نافذة الوجوب، في التنظير والتطبيق والتنزيل، سواء في خاصة نفسه أو غيره، وتراه يصلي في أي مسجد -ولو كان مفروشا- بالنعال، وكذا السواك بلا مراعاة، والقميص إلى نصف الساق بين البيئة الأمية، ونحو ذلك من السنن التي يجب أن تراعي فيها المصالح والمفاسد، وربما يوجد من يتخذ مثل هذه السنن مطية لرمي الآخرين التاركين لها بالتفسيق أو التبديع، كما عد بعضهم الإسبال من الأصول الفيصلية بين أهل السنة وأهل البدعة.

وهذا أيوب السختيانى من أئمة السنة والعمل، يقول عنه حماد بن زيد:” أمرني أيوب أن أقطع له قميصا قال: اجعله يضرب ظهر القدم، واجعل فم كمه شبرا”[10]. فقيل له: ما السبب وأنت قدوة؟! فقال: كانت الشهرة فيما مضى في تذييلها، والشهرة اليوم في تقصيرها”[11]

وسُئل الشيخ ابن باز عمن قال: إن جعل الثوب إلى نصف الساق فيه تشويه؟

فأجاب: لا؛ ليس من التشويه، لكن إذا كان عند قوم يتأذون به، وكذلك إذا كان يؤدي إلى سخرية الآخرين بالسنّة فالأولى تركُه، يلاحظ الوقت، وعدم الفتنة فيجعله إلى الكعبين؛ يأخذ بالرخصة.[12]

وله فتاوى كثيرة في ترك بعض السنن تأليفا للجماعة الذين لم يعرفوا تلك السنن ولم يطمئنوا إليها لجهلهم أو لتقليدهم حتى يكسبهم الداعي في أداء الفرائض، وترك المحارم، لأن تحصيل الفرائض مقدم، وترك المحارم أمر مقدم على النوافل، فبإمكان الداعي بعد ذلك أن يرشدهم إلى السنن التي قد تخفى عليهم.

والمقصود من هذا الطرح، أن أهل العلم وضعوا تعريفاتهم الخاصة للسنة النبوية وفق مجالاتهم وأغراضها تسهيلا للفهم وتقريبا للعلم، وينبغي للقارئ أن يعرف مقصود كل أهل التخصص من السنة، وعدم حملها على مصلح معين ضيق دائما.

وإن المتفق عليه عند أئمة سلف الأمة من حد السنة أنه “ما رسم ليحتذى” لكنها ليست على منزلة واحدة، منها واجب، ومؤكد، ومستحب، ومجرد العادة، والسعيد من طبق السنة في محلها بالحكمة.

وقال ابن دقيق العيد:” لا خفاء أن مراتب السنن متفاوتة في التأكيد، وانقسام ذلك إلى درجة عالية ومتوسطة، ونازلة وذلك بحسب الدلائل الدالة على الطلب”[13]

قال المكحول: “السنة سنتان: سنة الأخذ بها فضيلة، وتركها إلى غيرها حرج، وسنة الأخذ بها فريضة”.[14]


[1] – كما نبه إليه الشوكانى. ينظر: إرشاد الفحول 1/95

[2] – رواه مسلم (1017).

[3] –  فتاوى ابن الصلاح 1/139-140

[4] – تفسير الإمام الشافعي 1/241

[5] – رواه مسلم (2020)

[6] – رواه ابن ماجه (3266) وصححه الألباني

[7] – الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1/144

[8] – رواه أحمد (2029)

[9] – أضواء البيان 5/44

[10] – العلل لأحمد رقم: (841)

[11] – المصنف لعبد الرزاق 11/ 84

[12] – بحوث علمية نادرة ص:267

[13]البحر المحيط 1/386

[14] – السنة للمروزي (105)