لا تزال قضية العلاقة بين العقل والإيمان تشغل أهل الأديان، خاصة المسيحية والإسلام اللذين يشكل أتباعهما أكثر من نصف سكان العالم، وفي ظل مساعي عدد من علماء الدين لامتلاك المعرفة والمناهج الحديثة في المنطق والفسلفة وعلم الاجتماع للبرهنة على صحة إيمانهم وسلامة معتقدهم، تطورت الدراسات الدينية، وأصبحت تجادل مخالفيها، من الملحدين والماديين، على أرضية معرفية فيها قدر من المشترك الثقافي والفكري والمنهجي.

 

وعلى هذا الطريق الساعي للبرهنة علي عقلانية الإيمان، وامتلاك المعتقد للقدرة على البرهنة على صحته يأتي كتاب “الايمان والعقل” ” Faith and Reason” تأليف ” ريتشارد سوينبيرن” Richard Swinburne ترجمة: آرين عبد الحميد الجلال، والصادر عن دار جداول في بيروت، في طبعته الأولى عام 2017م، في 298 صفحة.

مؤلف الكتاب هو أستاذ في جامعة أوكسفورد، وفيلسوف بريطاني، وأحد أعلام الفلسفة المسيحية المعاصرة، قضى أكثر من نصف قرن من حياته في البحث في قضايا الدين وفلسفته، والكتاب ينشغل بماهية الإيمان وعلاقته بالعقل خاصة في الجانب المسيحي، لكن الإشكالية التي يطرحها تهم الأديان السماوية التي تؤمن بوجود إله للكون، رغم اختلاف تصوراتها الإيمانية حول الإله.

يُصاب الإنسان باضطراب في غياب الاعتقاد عن قلبه وسلوكه، وهي أزمة تنبه إليها الفيلسوف المسلم “ابن عربي” عندما قال: “العبادة قدر على العباد حتى من لا يدري فهو يعبد حيرته” فوجود الاعتقاد قادر على تحقيق الطمأنينة للإنسان، فالاعتقاد يمنح الغاية، والهدف، ويتدخل في صناعة الوسيلة، ويضع المعايير، التي تحقق التماسك في إدراك الأمور وتقيمها.

وقد وصف الفيلسوف الإنجليزي، في القرن الثامن عشر، “ديفيد هيوم” David Hume في كتابه “رسالة في الطبيعة البشرية” معاناة الإنسان مع غياب المعتقد، بقوله: “لقد أجهدني وأتعب عقلي هذا التفكير المركز في المتناقضات والاضطرابات المتشعبة في المنطق البشري، وجعلني مستعدا لنبذ كل معتقداتي ومنطقي، وأعجزني حتى عن مقارنة مدى صحة رأيي مقارنة برأي آخر، أين أنا؟ بل من أنا؟ ما الأسباب التي أستمد منها وجودي؟ وما الحالة التي سأصير عليها؟ إنني حائر بين كل هذه الأسئلة، وقد بدأت أرى نفسي في أتعس حالة يمكن تخيلها، محاطا بظلام حالك، ومحروما تماما من القدرة على إعمال جميع أعضائي وملكاتي.

الإيمان اختيار

يؤكد”سوينبيرن” أن الإيمان نوع الاختيار بفرضية مقابل فرضيات أخرى، ولابد أن يكون له تجليات وآثار في السلوك، فالإنسان يسعي من خلال إيمانه إلى تحقيق أهداف، وغايات، والوصول إلى نهايات، فمن يؤمن بوجود إله للكون يمتلك موقفا معينا تجاه الفرضية التي تنفي وجود الإله، وهذا الإيمان لابد أن ينعكس على السلوك، فالمرء ملزم بالعمل وفق معتقده، إذ لا يمكن تخيل ألا يكون للمعتقد أثر معقول في حياة الشخص وسلوكه، ويبدو أن ما ذهب إليه الكاتب يتوافق في مجمله مع رأي المسلمين من أهل السنة والذي صاغه “الحسن البصري” بقوله: “ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب، وصدقه العمل”.

ويشير واقع الناس إلى وجود فرضيات أساسية يميل الكثير إلى تصديقها دون أن تكون مبنية على تجربة مروا بها، غير أن المنطق يجعلها تبدو صحيحة، وهي ما يمكن تسميتها بالبديهيات، كذلك يوجد بعض المعتقدات التي لا تؤثر في حياة الناس وسلوكهم، غير أن البحث يكشف أنها ترتبط بقضية إيمانية لها آثارها في سلوك الشخص وعمله، كذلك قد يستمر الإنسان في الإيمان بفرضية معينة بينما يتغير برهانه عليها، لذا يحتاج الإيمان إلى بحث دؤوب لإيجاد البراهين على صحته، فالإيمان إرادي وطوعي[1]، ومن ثم يحتاج إلى تنمية ورعاية[2]، أما تأثيره في السلوك فما ذكره “سوينبيرن” يتوافق مع ما ذهب إليه الإسلام، فالاعتقاد الساكن، غير المتجلي في الحياة والسلوك لا معنى له، لذا جاءت آيات القرآن الكريم تربط بين الإيمان والعمل الصالح، باعتبارهما جناحان يحلق بهما المؤمن في الحياة سعيا للوصول إلى دار السعادة في الآخرة، ويؤكد “ابن عربي” أن المرء “لن يبلغ من الدين شيئاً حتى يوقر جميع الخلائق.

 أدلة استقرائية

هل الإيمان يحتاج إلى أدلة استقرائية لإثباته وتدعيمه؟

من يدرس المعجزات في تاريخ الأنبياء -عليهم السلام- يجد أن المعجزة أدركتها الحواس ففتحت كثيرا من القلوب نحو الإيمان، ولكنها لم تستمر[3]، ومن ثم يحتاج الإيمان إلى تجديد براهينه وأدلته، فالمؤمن مطالب بالسعي لإمداد الإيمان بالقوة البرهانية للعقل، وكلما اعتمد الاعتقاد على البرهان ازداد قوة ورسوخا، والبرهان خاضع للإرادة، وإذا لم تمنح الإرادة للبرهان قوة فلن يمكن بناء تصور اعتقادي واضح للإيمان.

يرى “سوينبيرن” أن الإيمان بوجود الرب، سبحانه وتعالى، لن يُملي على الإنسان نمطا سلوكيا معينا، مالم تكن لديه معتقدات أخرى إضافية عما يريده الرب من الإنسان، وعما يحقق رضا الرب أو غضبه، لذا يسعى الإيمان إلى بناء منظومات أخلاقية، والحديث عن جزاء لمن يفعل أو يخالف تلك المنظومات الأخلاقية، وهناك مثل قديم يقول: “لا يعنيني ما تؤمن به، ولكن يعنيني ما تفعله” فهناك أهمية أخلاقية للإيمان بمعتقدات صحيحة، ومع ذلك فالإيمان مهم في ذاته، وليس لكونه وسيلة للسلوك القويم، لأن الإيمان يبني جزءا مهما من تصور الإنسان للكون، كما أنه مكون رئيس في بناء الشخصية.

ويعد بناء الشخص لمنظومات برهانية عقلانية سببا رئيسا في امتلاكه معتقدات صحيحة، وارتقاء المعتقد إلى مستوى المعرفة يستلزم أن يكون المعتقد راسخا، وإذا كان اعتقاد المؤمن راسخا فإن رؤيته لما حوله ستكون أوضح ولن يكتنفها الشكوك، والرسوخ يتأتي من وجود أسباب عقلانية للإيمان، فلابد للإيمان من تبرير مؤصل، وكما يؤكد “سوينبيرن” أنه “من الجيد للمؤمن أن يقوم بالمزيد من البحث لتأكيد معتقده”، ولكن قد يفشل المرء في تبرير معتقده، وربما يرجع ذلك إلى وجود خلل في معاييره الخاصة، وربما تولد هذا الفشل عن “انعدام السعي” في البحث عن الحقيقة، لذا يرى الكاتب أن البحث أمر أخلاقي لاثبات صحة المعتقد.

يؤكد الكاتب أنه في ظل انتشار الشكوكية في الأديان فإن الإيمان يحتاج إلى حجج مبرهنة على وجود الرب، ومن ثم فالمؤمن مطالب بالبحث عن معايير مشتركة بينه وبين الملحد لاثبات وجود الرب، فالحقائق الدينية تحتاج إلى الحجج الاستقرائية، بدءا من المعلومات التاريخية إلى المعلومات الكونية والعلمية، حتى يتوزاى برهان الدين مع البرهان العلمي، فـ”الرب لن يمنحنا إثباتا قطاعا وحاسما على وجوده من دون عناء البحث” لأن الإيمان قائم على الطوعية والاختيار، والمرء يحتاج إلى قناعة عميقة لبيع منتج ما عوضا عن استخدامه، والشخص الذي يسعى لتكوين معتقدات صحيحة، لابد أن يسعى وراء تكون معتقدات عقلانية، من خلال بحث وتحقيق كافيين.

والحقيقة أن ما يطرحه “سوينبيرن” يتوافق مع رؤية العلماء والفلاسفة المسلمين الذين رأوا أن العلم والمعرفة والبحث أمور ضرورية لتحقيق الإيمان، فالإيمان لا يقوم على التقليد، ولكن على القناعة والاقتناع، وكان “أبو حامد الغزالي” يعلن أن “المُعرض عن العقل مكتفيا بنور القرآن مثاله: المتعرض لنور الشمس مغمضا للأجفان!فلا فرق بينه وبين العميان! فالعقل مع الشرع نور على نور” معتبرا أن “الشك أولى درجات اليقين”، ومع هذا يبقى الإيمان نفحة مستقرها القلب، قد يساعد العقل على إشعالها، لكن الإيمان يسمو على أدوات العقل ومناهجه الاستقرائية، فللعقل حدود، ومن العقل معرفة حدود العقل وإمكاناته في إثبات البرهان والتحري عن الحجة الصحيحة، لذا كان “جلال الرومي” يرى أن العقل قد يُعطل المعرفة المقدسة التي يدركها القلب في حضرة الإيمان، ويقول:” العقل رائع جدًّا ومطلوب من أجل أن يأتي… فإذا وصلت إلى بابه (أي الخالق سبحانه وتعالى) فطلق العقل، لأن العقل في هذه الساعة مضر بك، وهو قاطع طريق”.


[1] أكدت الرؤية القرآنية أن الإيمان طوعي في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: “من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” (سورة الكهف: الآية 29)

[2] رؤية  المسلمين من أهل السنة تؤكد أن الإيمان يزيد وينقص، قال تعالى “فزادهم إيمانا” (سورة آل عمران: الآية 173)، قال الإمام البخاري:”لقِيت أكثرَ من ألف رجل من العلماء بالأمصار، فما رأيتُ أحدًا منهم يختلف في أن الإيمان قولٌ وعمل، يَزيد وينقص”

[3] يستثنى القرآن الكريم باعتباره هو ذاته الرسالة والمعجزة معا