الفرح بشئ دليل على تعظيمه ومحبته، والفرح بالعلم تعبير عن تعظيم مكانته وعلو شأنه ومحبته، وإن الفرح به خير وأفضل من كل ما يفرح به الإنسان من أعراض الدنيا وزينتها، لا سيما علم الشريعة وما يتعلق به.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فإن أرفع درجات القلوب فرحها التام بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وابتهاجها وسرورها، كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ﴾ [الرعد: ٣٦]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ﴾ [يونس: 58]. ففضل الله ورحمته القرآن والإيمان؛ من فرح به فقد فرح بأعظم مفروح به، ومن فرح بغيره فقد ظلم نفسه، ووضع الفرح في غير موضعه، فإذا استقر في القلب، وتمكن فيه العلم بكفايته لعبده، ورحمته له، وحلمه عنده، وبره به، وإحسانه إليه على الدوام، أوجب له الفرح والسرور أعظم من فرح كل محب بكل محبوب سواه، فلا يزال مترقيًا في درجات العلو والارتفاع بحسب رقيه في هذه المعارف.[1]

ومظاهر المحافل العلمية موجودة من قديم الدهر، وهي لذة متجددة ومستمرة، ومتعددة الدوافع والمقاصد، ومتنوعة المجالات، ومن صورها:

أ – الاحتفاء بالقرآن الكريم، يذكر عن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه أنه “تعلم البقرة في اثنتي عشرة سنة فلما ختمها نحر جزورا”[2] فرحا وشكرا لله لمناسبة ختمه للسورة حفظا وفقها.

واشتهر في تاريخ سلف الأمة اشتهارا نسبيا ما يسمى بوليمة “الحذاقة أو التحلية”، وهي من مظاهر الاحتفاء والتكريم والاحتفال بالقرآن أمام ملأ من الجمهور؛ في مناسبة حذق الصبي أو حفظه للقرآن، حيث ينحرون جزورا ونحوه فرحا وسرورا وشكرا لله تعالى.

وقال الحسن رضي الله عنه:” كان الغلام إذا حذق قبل اليوم، نحروا جزورًا، وصنعوا طعامًا للناس”[3].

وعن ابن سلمة عن حميد قال: كانوا يستحبون إذا جمع الصبي القرآن أن يذبح الرجل الشاة ويدعو أصحابه.[4]

وقد حكى لنا أبو خبيب الكرابيسي جانبا من جوانب وليمة الحذاقة قائلا:”  كان معنا ابن لأيوب السختياني في الكُتَّاب، فحذق الصبي، فأتينا منزلهم، فوضع له منبر، فخطب عليه، ونهبوا علينا الجوز، وأيوب قائم على الباب، يقول لنا: ادخلوا، وهو خاص لنا”[5]

وتقول حُسْن أم ولد الإمام أحمد بن حنبل: لما حذق ابني حَسَن، قال لي مولاي: حسن، لا تنثري عليه. فاشترى تمرًا وجوزًا، فأرسله إلى المعلم، قالت: وعملت أنا عصيدة، وأطعمت الفقراء، فقال: أحسنت أحسنت. وفرق أبو عبد الله على الصبيان الجوز، لكل واحد خمسة خمسة.[6] وهذه هي صورة من صور الاحتفال بالقرآن عند المتقدمين.

ثم أصبحت الاحتفالات بالقرآن اليوم ظاهرة محلية ودولية عالمية، ولا يخلو بلد من بلدان المسلمين الحاضرة من تنظيم المسابقة القرآنية أو إقامة حفلات تحفيظ القرآن ونحوها.

ومثل هذه الحفلات من الحوافز التشجيعية الظاهرة التى تدعم معنوية الصغير والكبير كي تشرب النفوس حب القرآن والعلم، وتشجع الآباء أيضا على ترغيب أولادهم في تعلم كتاب الله عز وجل بالحب والإجلال.

يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى معددا لفوائد حفلات القرآن:
أرى أن هذه الاحتفالات لا بأس بها، بل هي مشروعة، ولكنها مشروعة لغيرها، كيف ذلك؟

هذه الاحتفالات نجد فيها فائدة :

1 – إدخال السرور على التلاميذ الذين حفظوا، فيُسَرون بهذا.

2 – أنه مظهر من مظاهر تعظيم القرآن، حيث جُمع الناس له من أجل أن يحتفل به.

3 – أنه يحصل به التلاقي بين الإخوة من كل جهة، والتعارف.

4 – أنه لا يخلو من إرشادات وتوجيهات وبيان لفضل القرآن وحفظه ، وغير هذا ، فهي مقصودة لغيرها في الواقع، وفيها خير ، فلا نرى بها بأسا إن لم نقل إنها مطلوبة لما فيها من هذه الفوائد التي ذكرناها.[7]

من ولائم تفسير القرآن: ما فعله صديق حسن خان رحمه الله، فإنه أولم وليمة كبيرة لمناسبة إتمام طبع كتابه “فتح البيان في مقاصد القرآن” اقتداءا بصنيع الحافظ ابن حجر مع الفتح على ما يأتى ذكره.
قال رحمه الله حاكيا لتلك الوليمة:” عملت وليمة عظيمة على تفسيري ( فتح البيان في مقاصد القرآن ) عندما ختم طبعه بمصر بهوبال المحمية، وجمعت علماء البلد وطلبته،
وحضرت الرئيسة المعظمة تاج الهند صاحبة القرآن الثاني ( نواب شاهجهان بيكم ) أنعم الله عليها وأكرم فيها – بنفسها الكريمة الفياضة – وفرقت على
الجماعة الحاضرة مبالغ من الفضة كثيرة، وكان جملة المصروف في أمر هذا التفسير خمسة وعشرين ألف ربية، ولله الحمد، فكانت تلك الوليمة على شرح الحديث ( يقصد وليمة فتح الباري) وهذه على تفسير الكتاب العزيز، وإنما عملت هذا كله تشبها بالأئمة الكبار وقدوة بأهل الحديث الأبرار [8]

ب – الاحتفاء بالسنة النبوية، الفرح بسنة النبي صلى الله عليه وسلم من أعلى مقامات السعادة والفلاح، لأن الفرح تابع للمحبة القلبية، ومن أحب السنة قد أحب صاحبها عليه الصلاة والسلام، وكم من عالم فرح عند إنتهاء تأليف في السنة أو من إقرائه وشرحه من كتب السنة النبوية فيشكر الله تعالى على توفيقه له.

ومن ذلك ما ورد في ترجمة أبي مسلم إبراهيم بن عبد الله المعروف بالكَجِّي “صاحب السنن” (ت 292هـ) عن الفاروق بن عبد الكبير الخطابي قال: “لما فرغنا من قراءة كتاب “السُّنن” على أبي مسلم الكجي، اتخذ لنا مأدُبةً، أنفق فيها ألفَ دينار، وقال: شهدتُ اليومَ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقبل قولي وحدي، ولو شهدتُ على دستجه بقل لاحتجتُ إلى شاهد آخر يشهد معي، أفلا أصنعُه؛ شكرًا لله تعالى؟[9]
وقيل أيضا: إنه لما حدث، تصدق بعشرة آلاف درهم شكرا لله [10].

وحكى الحافظ الذهبي في ترجمة أبى القاسم، إسماعيل بن محمد بن الملقب بقوام السنة، مصنف كتاب ” الترغيب والترهيب ” رحمه الله، أنه عمل مأدبة وحلاوة كثيرة في يوم الذى تم فيه شرحه لصحيح مسلم.[11]

وإن البخاري الإمام محمد بن إسماعيل أخبر عن نفسه أنه مكث في تأليف الصحيح ستة عشر عامًا، ثم جاء الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله ومكث في شرح صحيح البخاري خمسًا وعشرين سنة، في خمسة عشر مجلدًا وأسمى شرحه فتح الباري، ولما انتهى منه عمل وليمة عظيمة، دعا إليها أهل البلاد.
قال في ذلك تلميذه السخاوي:” وكان يومًا مشهودًا لم يعهدْ أهلُ العصر مثلَه بمحضرٍ من العلماء، والقضاة، والرؤساء، والفضلاء، وقال الشعراء في ذلك فأكثروا، وفرق عليهم الذهب، وكان المستغرقُ في الوليمة خمسَمائة دينار، ووقعت في ذلك اليوم مطارحة أدبية”[12]

قال محمد منير عبده آغا الدمشقي عن فتح الباري:” ولمّا تمّ عَمِلَ مصنِّفُه وليمة عظيمة لم يتخلَّف عنها من وجوه المسلمين إلا النادر بالمكان المسمى بالتاج والسبع وجوه في يوم السبت ثاني شعبان سنة اثنين وأربعين وثمانمائة، وقرئ في المجلس الأخير وهناك حضره الأئمة كالقاياتي والوناثي والسعد الديري، وكان المصروف في الوليمة المذكورة نحو خمسمائة دينار فطلبه ملوك الأطراف بالإستكتاب واشتُريَ بنحو ثلاثمائة دينار وانتشر في الآفاق، ومختصر هذا الشرح للشيخ أبي الفتح محمد بن الحسين المراغي المتوفى سنة 859 تسع وخمسين وثمانمائة”.[13]

وفي العصر الحديث، ذكر عن الشيخ عطية محمد سالم -رحمه الله- أنه لما أنهى شرح موطأ مالك، أقام لتلاميذه وليمة كبيرة في مزرعته بالمدينة احتفالاً وشكراً لله..

وكذا نقل عبد الله حفيد الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله عن جده، أنه
لما أنهى شرحه للكتب الستة في المسجد النبوي أقام وليمة لطلابه، شكراً لمولاه.
فشكر الله له.[14]

جـ – وفي اللغة العربية: عمل أبو الفيض محمد بن محمد الزبيدي وليمة عظيمة لمناسبة انتهاء تأليف كتابه “تاج العروس من جواهر القاموس”
قال عنه الجَبَرْتي:” وشرَع في شرح القاموس حتى أتمَّه في عدة سنين في نحو أربعةَ عشرَ مجلدًا، وسمَّاه (تاج العروس)، ولما أكمله أَوْلَمَ وليمةً حافلة، جمَع فيها طلابَ العلم وأشياخ الوقت بغيط المعدية، وذلك في سنة إحدى وثمانين ومائة وألف، وأطلعهم عليه، واغتبطوا به، وشَهِدوا بفضله وسَعَة اطِّلاعه ورسوخه في علم اللغة، وكتبوا عليه تقاريظَهم نثرًا ونظمًا”.[15]

د – وفي أصول الفقه: عن القاضي مجد الدين محمد بن يعقوب الشيرازي الفيروز أبادي أنه لما فرغ من كتابه المسمى بـ: (الإصعاد إلى رتبة الاجتهاد)، وحمل إلى باب السلطان مرفوعًا بالطبول والمغاني، وحضر سائر الفقهاءِ والقضاة والطلبة، وساروا أمام الكتاب إلى باب السلطان، وهو ثلاثة مجلدات، يحمله ثلاثةُ رجال على رؤوسهم، فلما دخل على السلطان وتصفَّحه أجاز مصنفَه المذكور بثلاثة آلاف دينار.[16]

وممن أكثر بالمحافل العلمية من العلماء المتأخرين الحافظ السخاوي، فإن له ولائم معتادة عند مجالس الختم والانتهاء من تدريس الكتب؛ يدعو إليها الأمراء والعلما وعلية القوم وغيرهم، وتنشد فيها القصائد.

يقول السّخاوي: “وكان لكثير من ذلك -أي الكتب التي أقرأها- ختوم حافلة، ورسوم أرجو أن تكون للقبول شاملة”[17]

وفي بعض البلدان الإسلامية المعاصرة كبلاد المغرب؛ فإنهم كانوا يخصصون يوما لحفلات علمية يطلقون عليه “يوم الختمة” بمناسبة “انتهاء العالم أو الشيخ من تدريس فن من الفنون، يكلل به مجالس الشيخ في الفن الذي يدرسه، من نحو أو فقه أو تفسير أو حديث، ويختم فيه الكتاب الذي درسه لطلبته وتلاميذه، قد يحضره في أحايين كثيرة الملوك والأمراء والكبار، يقوم الشعراء بإلقاء قصائدهم، تمجيدا للشيخ وثناء على عمله وذكر صفاته وتبريزه في الفن المختوم، كما يحمل عند نهاية المجلس على الأعناق والكواهل من طرف طلبته ومحببه على بيته، في مهرجان وإكبار، حيث يحتفل به رجال المدينة والعلماء ويقدم الحليب والثمر، وتقام المآدب والإكرام، وقد تقدم إلى الشيخ بعض الهدايا والصلاة ممن طرف الملوك والأمراء”.[18]

وكذا درجت المدارس والجامعات المعاصرة على حفلة تكريم الطلبة في المدارس الشرعية في نهاية كل السنة الدراسية، وحفلة التخرج من الجامعات الاسلامية في جميع المراحل.

إن هذا الطرح وهذا الموضوع أشبه بالعادات منه بالعبادات، إذ الغاية المنشودة من هذه المحافل العلمية هي نشر الوعي العلمي الصحيح وتقريبه بين يدي الناس بطريقة مكرمة ومحببة ومرغبة إلى النفوس، علاوة على أن الوليمة العلمية تثرى وتسهم في التواصل العلمي المستمر بين العلماء والطلاب من مختلف الأقاليم النائية والبلدان المتباعدة.

ولكن قد يشوب هذه المحافل أحيانا بعض الأمور المنكرة، كإيجاب إقامة الحفلات القرآنية على الطلبة في بعض البلدان اعتقادا على أنها من واجبات الدين، وفي بعض المحافل العلمية أصبحت الوليمة مرتعا لسرف وتبذير وآلات الملاهي والأغاني حتى بأصوات النساء أحيانا، إضافة إلى الغلو في تعظيم الشيوخ، وخاصة في مراسم أفراح يوم الختمة للكتب، حيث ترد في بعض صورها المبالغة في مدح المشايخ ووصفهم بأولياء الله المقربين الصالحين ونحو ذلك من الغلو الذى قد يفضى إلى ما لا يحمد عقباه، لا سيما في سلوك العوام وعقيدتهم.

وإذا كانت المحافل العلمية ترسم من غير وقوع في محذور شرعي، فإنه لا حرج ولا بأس في إقامتها إن شاء الله تعالى، جريا على البراءة الأصلية والمصلحة الراجحة.


[1] – مجموع الفتاوى 16/49

[2] – شعب الإيمان (1805).

[3] – رواه ابن أبي الدنيا في كتاب النفقة على العيال (318).

[4] – فص الخواتم فيما قيل في الولائم لابن طولون ص: 66.

[5] – رواه ابن أبي الدنيا في كتاب النفقة على العيال (314).

[6] – المغني لابن قدامة (7/288).

[7] – اللقاء المفتوح شريط 203 الوجه الأول.

[8] – التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول. ص:258

[9] – المنتظم؛ لابن الجوزي  13/ 34.  رقم(1989)

[10] – تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام 7/418

[11] – ينظر: سير أعلام النبلاء 14/ 471

[12] – الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 3/20

[13] – نموذج من الأعمال الخيرية في إدارة الطباعة المنيرية. ص 559

[14] – ينظر: منتديات كل السلفيين

[15] – عجائب الآثار؛ للجبرتي  2 /304

[16] – العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية 2 /244

[17] – وجيز الكلام فى الذيل على دول الاسلام 3/1029

[18] – ينظر: مقال ختمات صحيح البخاري ليوسف الكتاني