فضيلة الشيخ عبد الوهاب حمودة

روى الترمذيُّ عن جابرِ بنِ عبد الله رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ وَالمُتَفَيْهِقُونَ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا المُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: «المُتَكَبِّرُونَ».

الألفاظ:

الثرثار: هو كثير الكلام تكلُّفاً وخروجاً عن الحق، والثرثرة: كثرة الكلام وترديده.

المتشَدِّق: هو المتطاول على الناس بكلامه، ويتكلم بملءِ فيه تفاصحاً وتعظُّماً بكلامه، وهو الذي يوسِّع شِدْقيه ويملؤها بالكلام.

المتفيهق: أصله من الفَهْق، وهو امتلاء الغدير بالماء حتى لا يكون فيه موضع مزيد، والمتفيهق: هو الذي يملأ فمه بالكلام، ويتوسَّع فيه ويغرب به تكبراً وارتفاعاً وإظهاراً لفضله على غيره.

المعنى: الخلق حال للنفس تصدر عنها الأفعال بلا رويَّة ولا تكلف كالسخاء، فإن كانت تلك الحال بحيث تصدر عنها الخيرات، فالخلق فاضل وحسن كالصدق.

روى الترمذي عن عبد الله رحمه الله تعالى في تفسير حسن الخلق قال: هو طلاقة الوجه، وبذل المعروف، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة للكلمة الطيبة باللسان، وكفُّ الأذى من قول وفعل عن الناس، واحتمال المكروه الذي ينزل به، بحسن المداراة، وتحمل الأذى من غير إفراط ولا تفريط.

قال بعض البلغاء: الحسن الخلق من نفسه في راحة، والناس منه في سلامة، والسيء الخلق الناس منه في بلاء، وهو من نفسه في عناء.

وقال بعض الحكماء: عاشر أهلك بأحسن أخلاقك فإن الثواء فيهم قليل. فإذا حسنت أخلاق الإنسان كثر مُصافوه، وقلَّ مُعادوه، فتسهَّلت عليه الأمور الصعاب، ولانت له القلوب الغضاب.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (حُسْنُ الخلق وحسن الجوار يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار).

لذلك كله بيَّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث أنَّ من حسنت أخلاقه كان أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة.

فإنَّ الخلق القويم من أقوى دعائم إعداد الأمَّة، لأنَّ النفوس الضعيفة في أخلاقها، المختلَّة في كيانها، تُثير الفوضى في أحكم النظم، وتزلزل بفساد أخلاقها أركان أفضل مجتمع، فإذا لم تصلح النفوس أظلمت الآفاق، وعمَّت الفتن حاضر الناس ومُستقبلهم، ولذلك يقول الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].

فالأمَّة لا تصلح أحوالها، ولا تلتئم أمورُها، إلا إذا أُسِّس بُنيانها على الخلق الحسن القويم.

ثم انتقل الحديث إلى التحذير من سقطات اللسان، وهفوات الكلام. وذلك لأنَّ اللسان من نعم الله تعالى العظيمة، ولطائف صنعه الغريبة، وله في الخير مجال، وفي الشر ميدان، ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيَّده بلجام الشرع، فلا يطلقه إلا فيما ينفعه، ويكفه عن كل ما يخشى غائلته، وهو أعصى الأعضاء على الإنسان، لأنه لا تعب في إطلاقه، ولا مؤونة في تحريكه، وقد تساهل الناس في الاحتراز عن آفاته، والحذر عن مصايده وحبائله.

لذلك جاء الحديث محذراً عن شطحاته وسقطاته، ليسلم للمسلم عِرْضُه، وينجو من آثامه بدينه.

فحذَّر الرسول صلوات الله عليه من الثرثرة والتشدُّق، وحثَّ على الصمت والتعقُّل، لأنَّ الكلام ترجمان يعبر عن مستودعات الضمائر، ويخبر بمكنونات السرائر، لا يمكن استرجاع بوادره، ولا يقدر على ردِّ شوارده، فحقٌّ على العاقل أن يحترز من زللـه، بالإمساك عنه، والإقلال منه.

روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (رحم الله من قال خيراً فغَنِم، أو سكت فسَلِم)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ رضي الله عنه: (يا معاذ أنت سالم ما سكت، فإذا تكلمت فعليك أو لك).

وقال عقبة بن عامر رضي الله عنه فيما رواه الترمذي، قلت: يا رسول الله، ما النجاة؟ قال: (أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتُك، وابكِ على خطيئتك).

وروى أبو نعيم في الحيلة من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من كثر كلامُه كثر سقطُه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به).

وللسان آفات كثيرة: منها الكلام فيما لا يَعني، فإنَّ في ذلك مضيعة للزمن، وتبديداً للوقت، وزجّاً بالنفس في مضايق قد تهلكها، وتجرُّ الويل لها.

ففي الحديث أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد كعباً رضي الله عنه فسأل عنه، فقالوا: مريض، فخرج يمشي حتى أتاه، فلما دخل عليه قال: أبشر يا كعب، فقالت أمُّه: هنيئاً لك الجنَّة يا كعب، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: من هذه المتألية على الله – أي: التي تحلف بالله فتحكم عليه – قال: هي أمي يا رسول الله، قال: وما يدريك يا أم كعب، لعل كعباً قال ما لا يعنيه أو منع ما لايغنيه).

ومعناه: أنَّه إنَّما تتهيَّأ الجنَّة لمن لا يحاسب، ومن تكلَّم فيما لا يَعنيه حُوسب عليه، فلا تتهيَّأ الجنَّة مع المناقشة في الحساب، فإنَّه نوع من العذاب.

من آفات اللسان: فضول الكلام، والخوض في الباطل، قال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114].

وقال عمرو بن دينار: تكلَّم رجلٌ عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأكثر، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: كم دون لسانك من حجاب؟ فقال: شفتاي وأسناني، فقال: أفما كان لك في ذلك ما يردُّ كلامك؟!

وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنَّ الرجل ليتكلم بالكلمة يُضحِك بها جُلساءه يهوي بها أبعد من الثريا ).

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أعظم الناس خطايا يوم القيامة أكثرهم خوضاً في الباطل)، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخَائِضِينَ} [المدَّثر:45]. وبقوله تعالى: {فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140].

ومن آفات اللسان التقعُّر في الكلام: بالتشدق والتكلف، والتصنع المذموم، والتفاصح الممقوت. روى مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا هلك المتنطِّعون، ثلاث مرات) والتنطع: هو التعمُّق والتكلف.

وجاء عمرو بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما إلى أبيه يسأله حاجة فتكلم بين يدي حاجته بكلام، فقال له سعد: ما كنت من حاجتك بأبعد منك اليوم، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (يأتي على الناس زمان يتخللون الكلام بألسنتهم كما تتخلل البقرة الكلأ بألسنتها).

فإنَّ التكلف في الكلام والتمشدق به من مَظَاهر العُجْب، وقد نهى الدين عن العجب والخيلاء لما فيهما من الغرور الذي يخفي عن صاحبه عيوبه قال تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ(18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ(19) } [لقمان].

عن أبي ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه أنَّه قال: يا رسول الله، ما كان في صحف إبراهيم عليه السلام؟ قال: كان فيها: ينبغي للعاقل – ما لم يكن مغلوباً على عقله – أن يكون حافظاً للسانه، عارفاً بزمانه، مُقبلاً على شأنه، فإنه من حسب كلامه من عمله قلَّ كلامه إلا فيما يَعْنيه).

وعن لقمان عليه السلام أنَّه قال لابنه: يا بني من يصحب صاحب السوء لا يسلم، ومن يدخل مُدخل السوء يُتَّهم، ومن لا يملك لسانه يندم.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا أصبح ابن آدم فإنَّ الأعضاء كلها تكفر للسان – التكفير الخضوع والانقياد ههنا -تقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا).