رجاء الرحيوي

يعتبر الكتاب الذي نحن بصدد عرض قراءة له وفق منهج وصفي من الكتب المعاصرة التي تناقش قضايا قديمة حديثة لكن بطابع تجديدي، وبرؤية تقارب التكامل وتسعى له؛ فقد صدر الكتاب في طبعته الأولى سنة 2018 م عن دار النشر عالم الكتب الحديثة للنشر والتوزيع، وهو من الحجم المتوسط بعدد صفحات تعدادها 164 صفحة، وقدم للكتاب الدكتور إدريس مقبول، مدير مركز ابن غازي للأبحاث والدراسات الاستراتيجية.

وتعتبر صاحبة الكتاب الأستاذة سعيدة الملكاوي من المهتمات بقضايا الاجتهاد والتجديد، إضافة إلى قضايا المرأة والتربية والتعليم. ما دفعها إلى الخوض في غمار تجربة بحثية حول مفهوم الحداثة- خاصة عند طه عبد الرحمن- لما لهذا البحث من أهمية يفرضها واقع أثل لمفاهيم خلقت صراعا مجتمعيا وتنافرا مع القيم في معظمها، ما جعلها تختار نموذج الحداثة عند طه عبد الرحمن لسعة معرفته وتخصصه بهذا المجال وشمولية نظرته، إضافة إلى تركيزه على ربط الحداثة بالأخلاق والقيم.

وتعرض الأستاذة الملكاوي من خلال مقدمتها، لكل هذه الأسباب حيث اعتبرت سؤال الحداثة من الأسئلة المركزية التي استحوذت على الفكر العربي الحديث والمعاصر، والتي أحدثت قلقا معرفيا، انبثقت عنه سلسلة أسئلة وجودية عن الأنا والآخر والهوية والأصالة والحرية الأخلاقية، وعلاقة العقلانية بالدين.

وتضارب الآراء حول مفهوم الحداثة خلق تيارات مختلفة في العالم العربي والإسلامي بوجهات نظر متباينة.

حيث توزعت هذه التيارات بين من يرى أن الحداثة لا تكون إلا بالاعتماد على التراث الإسلامي ومخزونه النفسي للتعبئة والبناء، ومن يرى أن الارتباط بالحداثة الأوربية هو الطريق الوحيد للتقدم، في حين حاول الاتجاه البنائي الاستيعابي التوفيق بين نموذجه من جهة، واستيعاب نموذج الآخر من جهة ثانية، من أجل تجاوز الأزمة التي يجد المسلمون أنفسهم فيها، الأولى رحى الحقيقة الأزلية الثابتة وهي الموجودة في القرآن الكريم، والثانية رحى الحداثة التي ترى أن جميع الأمور قابلة لإعادة الصياغة والتطور الدائم.

ومن هذا المنطلق وضعت الباحثة أهدافا لدراستها تروم إعطاء رؤية بخصوص إشكالية الحداثة في الفكر الإسلامي المعاصر عن طريق إبراز تشكلات الحداثة الغربية واكتمالها في الواقع، وبيان الرؤية الإسلامية للحداثة (نموذج طه عبد الرحمن).

ومن الأهداف التي رصدتها أيضا الباحثة تعميق الأطروحات الفلسفية المقاربة والمخالفة في المجال ذاته، من أجل التفاعل مع إشكالية الحداثة في مجالها الغربي والعربي الإسلامي وفقا لمنطق اللأنا والآخر واستيعاب للمتغيرات الكونية المعاصرة، ومحاولة لفهم الواقع الراهن العالمي الإنساني، وقدرة الوحي والنص الديني على التواصل مع المعطيات الحداثية والتجديدية التي تنشد التغير والإصلاح والمساهمة في إعادة بناء الأمة لمفاهيمها وذاتها في سياق شهودها وتدافعها الحضاري والكوني.

ومن أهداف البحث كذلك التأكيد على أن المرجعية الإسلامية هي الطريق الوحيد للخروج من الأزمة الفكرية والحضارية للأمة.

وقد اعتمدت الباحثة على مجموعة من المناهج أبرزها المنهج الوصفي التحليلي، والمنهج النقدي التفاعلي الاستكشافي في قراءتها لرؤية طه عبد الرحمن للحداثة وتطبيقاتها الإسلامية، وخاصة في اعتماده على الرؤية الأخلاقية في نقده للعقل الحداثي وللحداثة وابتعادها عن القيم.

تنطلق الباحثة من إشكالية مفادها: هل للفظ “الحداثة” مدلول اصطلاحي إنساني كوني تختفي معه خصائص الأمم والحضارات، وتسود بدلها قيم عالمية واحدة؟ أم هي غير ذلك؟

وتبدأ رحلة البحث عن الجوانب بعد تقسيم هذا العمل العلمي إلى فصلين كل منهما يتضمن عددا من المباحث والمطالب.

حيث عنونت الفصل الأول: بالحداثة بين التشكيل والنقد في الفكر الغربي المعاصر، وحاولت من خلال المبحث الأول دراسة مفهوم الحداثة والعلاقات المفاهيمية التي تدور حوله، لتخلص إلى أن المفهوم له دلالات واسعة يصعب حصرها، وخصوصا إذا انتقل من مجال لآخر، غير أن للمفهوم أوجها من التداخل والتكامل والتقابل مع مصطلحات تشترك معه، إن لم تكن تؤدي في مجموعها معناه الكلي والشامل، ومن المفاهيم التي تتداخل أو تتكامل أو تتقابل مع مفهوم الحداثة وقع اختيار الباحثة هي المفاهيم التالية (النهضة والبحث والإحياء والتغيير والتجديد والشهادة). كما تبين الباحثة أن مفهوم الشهادة يدور حول دوائر ثلاث: (الدين؛ والكون؛ والإنسان)، حيث تؤكد أن من خلال هذه التحديدات الواردة في مفهوم الشهادة تستشف أن لها تقابلا مع الحداثة في المقومات الكبرى، كالعقلانية والعلم، إلا أن الحاضر في الشهادة الغائب في الحداثة، هو (الدين أو الأخلاق أو الغيب بصفة عامة…). وهذا ما جعل المقاربة (الطاهائية) تعتبر أن الحداثة ليست خاصية غربية وإنما هي خاصية إنسانية لتلقي بـ “الشهادة” الحضور الدائم في الزمن… ذات البعد العالمي الإنساني في التطبيق.

وتنتقل إلى الحديث عن مركب جديد وهو (ما بعد الحداثة) الذي كان نتاجا لرفض البشرية لكل القوالب الجاهزة الغير متجددة، في حين ظهرت فكرة أخرى تقول بإمكانية الاستغناء عن (ما بعد الحداثة) وذلك بإعادة قراءة الحداثة نفسها، وتحديد نقائصها ومواطن الضعف فيها، وإخضاعها للتطور المستمر. الذي يجعلها قادرة على استيعاب الجديد، ومواكبة التحولات، ولا تبقى سجينة حقيقة معينة ولا تنحصر في أفكار نهائية. وهناك من حاول إعطاء مفهوم (ما بعد الحداثة) مضمونا آخر، فيقول: بأنه تهذيب للحداثة وتلين لها.

وتعرض بعد ذلك الأستاذة الملكاوي لإشكالية العلاقة بين الدين والحداثة، والصراع الأخلاقي الذي عانت منه الحضارات نتيجة غياب القيم؛ وهذا ما يجيب عنه المبحث الثاني “الأسس الفلسفية المشكلة للحداثة الغربية وخلاصتها المدمرة”.

والمقصود بالخلاصة المدمرة هو هذا الشرخ الذي سبق الحديث عنه في الفصل بين الحداثة والأخلاق أو الدين في العالم الغربي، حيث اعتمدت مقومات الحداثة الغربية على مرتكزات أهمها:

العلمانية: بعد الثورة على وصاية الكنيسة واحتكارها للدين.

العقلانية: الاحتكام إلى العقل في جميع مناحي الحياة.

اعتماد العلم ومناهجه: ويعني ذلك بصفة خاصة الابتعاد عن الغيبيات والأخذ بالمنطق العلمي الذي لا يقر إلا بما تثبته التجارب العلمية.

الإيمان بفكرة التقدم: ويعني ذلك التسليم بجدلية التغيير والتحول.

الحرية الفردية: وتعني تحرر الفرد من كل القيود.

الديمقراطية الليبرالية: التي تقوم على التعددية الحزبية، وحرية الانتماء السياسي، والنقابي وحرية الصحافة، وتداول الحكم من طرف التيارات السياسية المعبرة عن توجهات الرأي العام المتباينة.

احترام حقوق الإنسان: والمقصود بذلك احترام الحقوق والحريات الفردية والجماعية وحماية الكرامة الإنسانية.

وبالنظر إلى مآلات الحداثة فإنها لم تستطع تحقيق الغايات التي كانت تهدف لها، بل أكثر من ذلك قامت فلسفة ما بعد الحداثة على تجاوز القيم التي أسستها الحداثة.

وتنتقل الأستاذة الملكاوي من خلال المبحث الثالث لعرض مقاربة نقدية من داخل النسق الغربي لخطاب الحداثة. حيث ينصرف هذا النقد إلى الانفصام الذي أحدثته تجربة الحداثة الأوروبية بين القيم والعملية المعرفية، إذ أدى هذا الانفصام إلى تحول العلم إلى أداة طبيعية في يد كل الأغراض، وأبرزت بعد ذلك نواة النقد الأولى من خلال مدرسة فرانكفورت، حيث اعتبرت النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت بديل نظري نقدي واضح المعالم يستطيع الوقوف أمام التيارات الفكرية التقليدية التي مارست ومازالت تمارس أشكالا من التسلط والقهر الفكري والتي لا تقوم على الربط الجدلي بين النظرية والممارسة العملية.

وعرضت لأهم رواد هذه المدرسة خصوصا الذين أحدثوا تغييرا مهما في رؤيتها، ومن بينهم “أبل وهبرماس” حيث يعتبر طه عبد الرحمن بأن نظرية التواصل مع “أبل وهبرماس” قد وقفت في اجتناب ما وقعت فيه عقلانية التنظيم من الاستلاب على الأخلاق الدينية، فقد قررت بأن الأخلاق تستقل بوظيفتها التقويمية في مجالها الأصلي الذي هو التواصل والمناظرة، وبأنها تضاهي العلم في شمولية القواعد وعقلانية الأصول إن لم تعل عليه في ذلك درجة.

وتعرض الباحثة من خلال الفصل الثاني: لرؤية الحداثة عند طه عبد الرحمن من النقد المعرفي المزدوج إلى إعادة بناء المفهوم الإسلامي.

ومن خلال مدخل هذا الفصل بينت الباحثة الفكرة المحورية التي يدعو إليها طه عبد الرحمن انطلاقا من حداثة أخلاقية، بعيدة عن تقليد حداثة الآخرين التي تعمل على تدمير حقيقة الإنسان، فبعد تشخيصه لواقع الحداثة الغربية الحالية، نبه الفكر الإنساني عامة إلى روح الحداثة وهو المدخل إلى تأسيس حداثة إسلامية، لبناء التصور الحقيقي الذي ينبغي أن تكون عليه الحداثة.

ولا نستغرب هذا الطرح من مثل هذا الرجل الذي كانت له تجربة صوفية دخل إليها اختيارا لا اضطرار خلافا لتجربة الغزالي التي كانت على وجه الاضطرار حسب قوله، ومعرفته بمجالات موسوعية فلسفية، وشرعية، ولغوية، ما أهله من خلال تجاربه أن يقدم طرحه الأخلاقي للحداثة في صورة متكاملة وشاملة.

كما أنه لا يخفي إعجابه بالمنهجية الأصولية الإسلامية، حيث يعتبر أن هذه المنهجية هي العطاء المنطقي الإسلامي غير الأرسطي البارز في عموم التراث الإسلامي العربي. كما أن الدكتور طه عبد الرحمن لاحظ أن الأمة الإسلامية تتعرض اليوم لاعتداء مفهومي اتخذ شكل إلزام الأمة بمفاهيم مخصوصة، الغرض منها إعادة صياغة عقول المسلمين وأخلاقهم، حتى يسهل قيادهم، سعيا وراء إفساد عاداتهم وطباعهم أو الاستيلاء على ثرواتهم ومقدراتهم أو الابتزاز لحكامهم بعد أن زكي لأمد طويل ظلمهم، وقد عرض الدكتور طه عبد الرحمن لأفكاره هذه من خلال عدة كتب ومن بينها كتابه “سؤال الأخلاق”. وقد عرض الفرق بين فلسفة الدين والحداثة في الرؤيتين الغربية والإسلامية.

كما كانت لطه عبد الرحمن وقفات نقدية مع المسارات الحداثية المغربية، وأسباب الاختلاف مع المشارقة الناتجة عن عدة عوامل، إلا أنه يؤكد أن التجربة الحداثية المشرقية كانت بدايتها مغربية، ويطرح إشكال مشروع الحداثة إذن في جوهره هل هو خصوصي أو كوني عالمي؟

وتنقلنا الباحثة إلى جدلية التراث والحداثة عند عبد طه عبد الرحمن الذي وضع مقاربة تجديدية للتراث تنبني على وظائف منطقية آخذة بمبدأ الاشتراك مع الغير في طلب العلم، وعلى قواعد أخلاقية تأخذ بمبدأ النفع المتعدي للغير أو إلى الأجل، ولتبرز الباحثة تميز الدكتور طه عبد الرحمن تقارن نموذجه وطرحه في موضوع التراث بما قدمه عابد الجابري والعروي، في انتقادهم للتراث.

يؤكد طه عبد الرحمن على ضرورة التعامل مع التراث والأخذ بعين الاعتبار بمقتضى الماضي ومقتضى الحاضر، ويرفض الجمود ويؤكد على إحياء القيم الصالحة للمجتمع كما مثل لها بالقيم الحية دون القيم الميتة.

كما قدمت الباحثة لسؤال العقلانية في مشروع طه عبد الرحمن والذي يعرض تصوره لمفهوم “العقل” و”العقلانية”، وانطلاقا منه يمكن نقد الحداثة الغربية، ونقد الفكر الإسلامي القديم والحديث… ونقل أو ترجمة الفكر الغربي الحديث بصورة صحيحة، وقراءة التراث الإسلامي قراءة صحيحة، وتقديم التصور الأخلاقي الصحيح اللازم لمعالجة مشكلات الحداثة الغربية، وتأسيس الحداثة الإسلامية البديلة.

ومن هذا المنطلق قام د. طه عبد الرحمن إلى تقسيم العقل إلى ثلاثة أقسام: العقل المجرد والعقل المسدد والعقل المؤيد.

والمبحث الأخير بعرض لبدائل “الحداثة” أو “روح الحداثة” التي يؤكد من خلالها مشروع د. طه عبد الرحمن على ضرورة الإبداع وتطبيق روح الحداثة من “الداخل” لا إنزالها من “الخارج”.

ولا يتأتى هذا الإبداع لا من خلال ثلاثة أسئلة: سؤال النقد وسؤال الرشد وسؤال الشمول، وكلها تدعو إلى قراءة جديدة للماضي والحاضر وفق ما يتناسب مع الواقع دون قطيعة أو تقليد للتراث الإنساني. بل ما يتوافق مع إحياء قيم وتقدم الإنسان ويحقق سعادته.

وتأتي خلاصة مشروع د. طه عبد الرحمن منسجمة مع خصوصية التطبيق الإسلامي لروح الحداثة، لأنها تروم الارتقاء بالفعل الحداثي” وهذا يعني أن التطبيق الإسلامي” يدفع بعض المضار التي وقع فيها التطبيق الحداثي ويجلب بعض المنافع التي انطوى عليها التطبيق “الما بعد حداثي”.