نشر أحد المغردين متأخرا شبهة تدعي انصراف الصحابة عن كتابة الحديث، وعدم اكتراثهم لها، وزعم أن أشدهم في النهي عن جمع الحديث الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويبدو أن صاحب التغريدة عزا هذه المقولة إلى كتاب تاريخ التشريع الإسلامي محمد الخضري بك، واستغربت من أول وهلة وقعت عيني على هذه الدعوى، واستنكرت نفسي هذا الاطلاق؛ لمخالفته لما عهدته من خلال القراءات المختلفة للأحداث المرتبطة بتدوين السنة النبوية، ثم راجعت مستند التغريدة، فظهرت بعض ملاحظات لا بد من إبرازها حتى لا يختلط الأمر على المثقف المسلم.

أولا  –  طلب عمر بن الخطاب التقليل من رواية الحديث وليس المنع المطلق: ما ذكره التغريدة بأن عمر كان أشد الناس نهيا عن كتابة الحديث جانبَ الصواب، فإن الصحيح من الرواية أن عمر رضي الله عنه نهى عن الاستكثار من كتابة السنة النبوية حتى لا تطغى كثرتها على كتاب الله، فينصرف الناس عنه، فيضيع، لا سيما وأن أحداث جمع المصحف بعد موت الحفظة في اليمامة حاضرة في الذاكرة، ولو فتح مشروع تدوين السنة على مصراعيه لكان أدعى لضياع القرآن.

بل الراجح أن عمر دعا إلى التقليل من كتابة السنة في عهده، ولم يثبت أنه نهى عنها نهيا مطلقا، وهذا الحرص يدخل ضمن سياسته رضي الله عنه، من أجل الحفاظ على مكانة القرآن الكريم من اختلاطه مع نظيره من السنة النبوية، ويستفاد ذلك من الآثار المختلفة التي أكدت على هذا السبب.

– جاء في تذكرة الحفاظ للذهبي: عن قرظة بن كعب قال: لما سيَّرَنا عمر إلى العراق مشى معنا عمر وقال: أتدرون لم شيعتكم؟ قالوا: نعم تكرمة لنا قال: ومع ذلك أنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم، جردوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله وأنا شريككم. فلما قدم قرظة بن كعب قالوا: حدثنا فقال: نهانا عمر رضي الله عنه. [1/12].

– لا يقتصر السبب من طلب التقليل في الرواية على ضياع القرآن، بل يضاف إلى ذلك أمر آخر وهو: احتياط عمر بن الخطاب من وقوع الخطأ في نسبة الحديث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا يدخل في سؤال الضبط والتثبت من الرواية قبل البسط فيها، فكان عمر بن الخطاب يحبس بعض الصحابة بسبب إكثارهم من الرواية، وليس بسبب مجرد رواية الحديث. لذلك كان معاوية يقول: ” عليكم من الحديث بما كان في عهد عمر فإنه كان قد أخاف الناس في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.[المصدر السابق].

وهذا الكلام الصادر عن معاوية يثبت لنا أن رواية الحديث كانت موجودة ومنتشرة في عهد عمر بن الخطاب، ولكنها كانت ممنهجة، حيث يبحث قبل قبول أي رواية عن السند والشاهد، وهذا ساعد في الحد من نسبة انتقال الأخبار غير الثابتة عن الرسول، بل يعد هذا المنهج أول بادرة لوضع منهج الرواية والتثبت في الحديث. وما ذكره معاوية يمثل خبر عيان ممن شهد وعاصر عهد عمر بن الخطاب، واحتج بهذه السياسة بما لا يدع الشك في اعتباره.

قال الخضري بك في كتابه “تاريخ التشريع الإسلامي” مشيرا إلى سبب النهي عن الكتابة في عصر الخلافة: “إنما كانوا يشيرون بتقليل الرواية خشية أن ينتشر الكذب والخطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك كانوا يتثبتون فيما يروى لهم، فلم يكن أبو بكر ولا عمر يقبلان من الأحاديث إلا ما شهد اثنان أنهما سمعاه .. وكان علي يستحلف الراوي.. الخ”.  [تاريخ التشريع الإسلامي، الخضري بك: 94].

ثانيا – سياسة عمر في رواية السنة النبوية متوافقة مع سياسة أبي بكر رضي الله عنهما: دعوى صاحب التغريدة بأن عمر كان أشد الصحابة في النهي عن كتابة السنة غير مسلمة، حيث إن عمر لم يُحدِث أمرا جديدا ذا خطر بوضع الحد من الاستكثار من رواية السنة أو كتابتها، وإنما جسد سياسة أبي بكر ووظفها في خلافته، ورسخها كقاعدة معتمدة، فنسبت إليه.

– جاء في مراسيل ابن أبي مليكة، أن الصديق جمع الناس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “إنكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه. [تذكرة الحفاظ 1/9].

يقول الذهبي بعده: “يدلك [هذا الخبر] أن مراد الصديق التثبت في الأخبار والتحري لا سد باب الرواية، ألا تراه لما نزل به أمر الجدة ولم يجده في الكتاب كيف سأل عنه في السنة، فلما أخبره الثقة ما اكتفى حتى استظهر بثقة آخر ولم يقل حسبنا كتاب الله كما تقوله الخوارج”.

ثالثا – انتشار كتابة السنة النبوية بين الصحابة بما في ذلك عصر خلافة عمر بن الخطاب: ومما يرد المزاعم أن كتابة السنة يرجع تاريخها إلى حياة النبي صلى الله عليه وسلم، واستمرت في فترة الخلافة الراشدة ولم تتوقف أبدا، بل إن عمر بن الخطاب أراد ضمن سياسته تجريد السنة النبوية بالكتابة، واستشار الصحابة وأهل الرأي في وقته تماما على نحو ما جرى في جمع القرآن الكريم لكنه توقف لعلة خارجية، وهي الخوف من الانصراف عن القرآن الكريم والإقبال على السنة فقط. ولكن الصحابة رضوان الله عليهم تابعوا كتابة السنة وتناقلوها بالمراسلات والروايات.

– أما نية عمر بن الخطاب تجريد السنة بالكتابة الخاصة فقد ذكرها عروة بن الزبير رحمه الله، وذلك: ” أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يكتب السنن، فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهرًا، ثم أصبح يومًا وقد عزم الله له، قال: إني كنت أردت أن أكتب السنن، وإني ذكرت قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتبًا، فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدًا”. [ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 274)].

وبين الذهبي في التذكرة مجموعة من الكتابات الحديثية التي اشتهرت في عصور الصحابة من خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وهي تثبت أن السنة النبوية لم تبق مهملة طوال القرن الأول إلى عهد عمر بن عبد العزيز.

– يقول أبو جحيفة: ” قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: هل عندكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن؟ قال: «لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يعطي الله عبدا فهما في كتابه وما في هذه الصحيفة» قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: «العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر».

– وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقات، والديات، والفرائض، والسنن لعمرو بن حزم وغيره.

– وكتب معاوية بن أبي سفيان إلى عائشة -رضي الله عنها – أن اكتبي إليَّ بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فكتبت إليه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه من يعمل بغير طاعة الله يعود حامده من الناس ذامًّا”. [مسند الحميدي: 265].

– وعبد العزيز بن مروان كتب إلى عبد الله بن عمر أن ارفع إليَّ حاجتك، قال: فكتب إليه عبد الله: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ابدأ بمن تعول واليد العليا خير من اليد السفلى [مسند أحمد بسند حسن].

وأمثلة كثيرة في انتشار الرواية  وكتابة السنة والمكاتبات بين الصحابة في هذه العصور الفاضلة بما لا يدع شك لكل ناظر وباحث عن الحق، وللمغرد أن يراجع الكتاب الذي استند عليه في دعواه ليقف على حقيقة رأي المؤلف، وما سرد من الأدلة المتعددة المؤكدة على أهمية مصدر السنة وحركة تدوينها في عهد الصحابة.