ظهرت في هذه النازلة نازلة كورونا تصورات خاطئة في ثقافتنا الإسلامية، أدّت إلى حالة من الإرباك، واختلال الموازين، وتباين المواقف، والحقيقة أن هذه ظاهرة متكررة في كل الأزمات التي نمر بها، مما يكشف عن ضعف في التكوين، وضعف في التواصل العلمي والمعرفي بين أهل الشأن قبل غيرهم.

المادة أيها الإخوة ليست في الكفة المقابلة للروح، وأنا هنا سأفصلهما للتوضيح فقط مع أني لا أؤمن بالفصل أصلا.

المادة يا إخوة تعني فيما تعنيه كل العلوم التجريبية وما توصل إليه الإنسان بخبرته ومعارفه كالطب والصيدلة والهندسة والصناعة والزراعة ..الخ، وهي كذلك أنظمة الحياة المختلفة التي تنظم شؤوننا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والجمالية ..الخ.

أما الروح فتعني فيما تعنيه القوّة الإيمانية التي تربط الإنسان بعالم الغيب، العالم الأرحب والأشمل من هذا العالم المادي المنظور (عالم الشهادة)، إنها الإجابات العقدية لأسئلة الإنسان الكبرى: من خلقني؟ ولماذا خلقني؟ وما هي نتيجة هذه الحياة؟ ..الخ ومنهج الإسلام في صياغة الإنسان وفق هذه الأجوبة، وهذه الأسئلة ليست أسئلة فلسفية أو ثانوية، بل هي من صميم الفطرة الإنسانية التي تميّز الإنسان عن غيره، ومن صميم مهمة الإنسان ورسالته في هذه الحياة.

الإسلام ما جاء أبدا ليعمل معركة بين المادة والروح، ولا أن يعمل صلحا بين الجانبين، لأن الإسلام لا يعترف بأنهما جانبان مختلفان.

الإسلام يقول: إن الله هو الذي خلق هذه الحياة المادية، ووضع فيها قوانينها ونواميسها، وهو سبحانه الذي خلق الإنسان وعرّفه بسر وجوده والغاية من خلقه.

الإسلام يقول: إن الله تعالى وضع قوانين الحياة ، ووضع قوانين الشريعة التي تنظم هذه الحياة.

تأملوا هذه الآيات: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) و (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) و (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا) (يا أيها المدّثر قم فأنذر وربّك فكبّر وثيابك فطهّر والرجز فاهجر). بالله عليكم هل أستطيع هنا أن أفصل بين المادة والروح؟ حتى أدّعي أني يجب أن أوازن بينهما، أين المشكلة التي تراها بحاجة إلى حل أو إلى توازن.

أنت يا أخي تركع وتسجد بروحك وجسدك، لا بروحك فقط ولا بجسدك فقط.

وأنت تطلب الرزق لعيالك فتؤدي واجبا شرعيا وحياتيا في ذات الوقت.

في أزمة كورونا، ظهرت أزمة أو أزمات فكرية كثيرة : كيف نوفق بين التوكل على الله وبين الأخذ بالأسباب؟ كيف نوفق بين الإيمان بالقدر والخضوع لسلطان العلم؟ هل الفيروس جندي من جنود الله أو جندي من جنود الشيطان؟ وهل هو ابتلاء أو عقوبة وطرد من رحمة الله؟ هل الأدعية المأثورة تكفي للتحصّن من الوباء؟ هل المساجد لها خصوصية تحصّنها من الوباء؟

إنها باختصار أزمة وعي، أزمة العقل المسلم حينما يفصل بين آيات الله في الوحي وآياته في الخلق، ويتعامل مع هذه وهذه بمزاجية وانتقائية، أنظروا إليه لما يعطش يذهب إلى الماء ثم يحمد الله ولا يصدّع رأسه بهذه الأسئلة، لكنه في الأزمات الوضع مختلف، مع أن القياس واحد، فما يرد على شربة الماء يرد على كل الأسباب الأخرى .

إن من يفهم التوازن أنه ينبغي مثلا أن نعطي الروح 50% وللمادة 50% قلت النسبة أو كثرت، فهو واهم.

وواهم أيضا من يفهم التوازن أننا حينما نحلل حادثا مروريا أو مرضا أو رسوب طالب في الامتحان أننا نقول: التحليل العلمي المادي كذا، والتحليل الديني القدري كذا!! هذا في الحقيقة أشبه بالعلمانية المبطنة، التي تفترض أن العلم ليس من قدر الله، وأن نواميس الكون ليست بإرادة الله.

إننا نستطيع أن نصل إلى غاياتنا الإيمانية والروحية بأبسط من هذا، نستطيع أن نقول: إذا عطشت يا أخي فاشرب الماء ثم احمد الله على ذلك، وإذا مرضت فخذ العلاج واشكر الله أن هيأ لك الطبيب ويسّر لك العلاج، ومن تمام الشكر أن لا تستعين بالنعمة على المعصية، لماذا نصر على إقحام الأمة في فلسفاتنا؟ مع أن النبيّ عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا ذكر القدر فأمسكوا) و في حديث آخر: (خرج رَسُول اللَّه صَلى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلمْ عَلَى أصحابه وهم يختصمون في القدر. فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب. فَقَالَ: بهَذَا أمرتم أو لهَذَا خلقتم؟ تضربون القُرْآَن بعضه ببعض. بهَذَا هلكت الأمم قبلكم).

والذي أفهمه من النهي عن الخوض في القدر، هو الخوض في تحليل إرادة الله بالأقيسة والأمزجة التي يختلف الناس فيها كما اختلفوا من قبل، ومنه أيضا الخوض المفضي إلى التهاون بالأسباب والنواميس الكونية، أو الحكم على الأشخاص والجماعات ليس بميزان الشرع وإنما بما يحل بهم من أقدار. وهكذا أفهم أيضا قول علمائنا (القدر نؤمن به ولا نحتج به) إذا الاحتجاج إنما يكون بما نعلمه من أحكام وموازين، أما إرادة الله فنخضع لها ونتأدب عن تحديدها ، والله أعلم وأحكم.