• النزوع الشرس الدارويني نحو “تنميط الحياة” يضعف “النوع البشري”
  • “عقل المسلم”، لا يزال رهينَ استقطابات عنيفة وأيقونات مبتسَرة
  • أقرأ الكليات الخمس من خلال مصفوفة: الضروريّ، والحاجي، والتحسيني
  • الخطاب الدعوي ينبغي أن يكون رهين حاجات المجتمع وإلا كان أجوف
  • فليكن يوم الفرج من الوباء يومَ استقلال لنا.. ولنسأل الله أن يعجّله

في هذا الحدث الذي تشهده البشرية منذ عقود، بل ربما لم تشهد مثله من قبل، بهذا الاتساع والانتشار، بسبب تلاشي المسافات وزوال الحواجز.. لا شك أننا أمام كثير من الدلالات ينبغي استخلاصها، وعلى جميع مستويات الحياة؛ بدءًا من الطبي، مرورًا بالتعليمي، وليس انتهاءً بالحضاري.

نتوقف في هذا الحوار مع بعض ما ينبغي استيعابه من دروس من وباء “كورونا”، مع د. محمد باباعمي، مدير معهد المناهج، بالجزائر، وصاحب العديد من الكتابات المتميزة، مثل: أصول البرمجة الزمنية في الفكر الإسلامي، مقارنة بالفكر الغربي.. مفهوم الزمن في القرآن الكريم.. الوعاء الحضاري (منطق البحر والأمواج، أو السباحة ضد التيار).. بذور الرشد: تفسير سورة الحديد.. من “الكمون” إلى “الفعل الحضاري”: سؤال العلاقة بين الفكر والفعل.. معجم مصطلحات الإباضية.. بوبال: مذكرات هارب من الموت، ناج من بطن الحوت (رواية).. فإلى الحوار:

كيف ترون أزمة وباء “كورونا”.. من زاوية حضارية؟

جائحة “كورونا” ليست نشازًا في مسار البشرية، فهي امتداد لعولمة كلّ شيء: عولمة المعلومة، والبضاعة، والمتعة، والقناعة، والقانون، والبيئة، والسلاح، والدواء، والنقل، والغداء.. وها اليومَ قد بلغنا مرحلة “عولمة المرض”؛ ذلك أنَّه لأوَّل مرَّة في التاريخ تُنقل أخبار المرض والمرضى عالميًّا “على المباشر” (Live)، وتُضاف الأرقام إلى بعضها في جداول شاملةٍ كمثل جداول البورصة المالية العالمية، مع مقارنات بين بلدٍ وآخر، ومدينة وأخرى.

ثم إنَّ النزوع الشرس الدارويني نحو “تنميط الحياة” وجعلها “واحدةً في كلّ مكان” و”في كلّ شيء”، لا بدَّ أن يضعف “النوع البشريَّ”، ويقوي “فرص الصحَّة” و”تهديدات المرض” في آنٍ واحد؛ فأنت بلقاح واحد قد تقضي على “وباء” منتشرٍ عبر العالم، ولكنك في ذات الوقت قد تُضعف “الجسد المرجعيَّ والنوعيَّ” للإنسان؛ فإذا ما نزل “فيروس واحدٌ” مثل فيروس “سارس”، أو “كوفيد 19” بعده؛ وجد “الوحدات” البالغ عددها أكثر من سبعة ملايير “قطعة من البشر”.. وجدها “متجانسة” (homogeneous) ومن ثم فما كان فيها من ضعفٍ فضحَه، وما كان من قوَّة تحطَّم حياله؛ ولو أنَّنا حضاريا قبلنا التنوُّع وعدم التجانس (heterogeneous)، ولم ننمط الناس لأغراض “اقتصادية”، و”سياسية”، و”إيديولوجية”.. إذن، لما تمكَّن الفيروس من بلوغ حالة “الوباء الكوني” الشامل. ثم إني أضع نموذجين تحليليين في المستوى الحضاري، وهما: نموذج “الموت الأخير”؛ ونموذج “انتقام الأنقاض.

من خلال النموذج الأوَّل، أعود إلى عمليات “القتل”، و”الاغتيال”، و”التفكيك”، و”التفجير”، و”النهاية”، و”الصدام”، و”السيولة”.. التي شهدناها منذ أن أعلن نيتشه أنه “قد مات الإله” (Gott ist tot)، إلى أن أعلن زيغموند باومن “مجموعة السوائل” (الحياة السائلة، الحب السائل، الحداثة السائلة، الشر السائل) وما بين ذلك يقف “تفكيك المعنى”، “وموت المؤلف” مع دريدا، ثم “نهاية التاريخ” عند فوكوياما، ثم “صدام الحضارات” في نظرية هنتنغتون.. ويأتي السؤال المحير: ما الذي ماتَ بمناسبة جائحة الكورونا؟

لعلَّ استعجالَ الجواب يكون غيرَ دقيق، لكنَّ كلَّ المظاهر تشير إلى “موت العِلم”، ذلك أنَّ العلم الذي كان يومًا ما اليقينَ الوحيد، وكان عليه المعوَّل في منح الإنسان قسطًا من الاستقرار، والراحة، والصحة، وحتى التحكم والسيطرة؛ فجأةً وجد نفسه عاجزا أمام “شبه خلية” (pseudo cell)  أي أنها لا تبلغ في تصنيفها البيولوجي حتى مستوى “الخلية الكاملة”؛ فجأةً وجد “العلم” نفسَه عاجزًا، فاقدًا للفهم، غير قادر على ادعاء الإدراك، مترددًا، مضطربًا، متناقضًا… إلخ.

ومن عجبٍ أنَّ هذا الموت طال حتى أبسط التفاصيل، التي كنا نظنُّ أنها من “البدهيات” التي لا تحتاج إلى دليل، من مثل: كيف تتنقل العدوى؟ كم تبقى في الجو؟ وهل لبس الكمامات ضرورة؟ أم هي خاصَّة بمن أصيب؟ بله التشخيص، واللقاح، والوقاية، والمداواة… إلخ؟

أمَّا النموذج الثاني، والذي أجده “أكثر تفسيرية” فهو نموذج “انتقام الأنقاض”؛ وهي أنَّ جميع ما حوَّلناه إلى أنقاضٍ في منظومتنا المعرفية الشرسة، وجميع ما قمنا بتفكيكه، وجميع ما فجَّرناه من الداخل.. جميع ذلك تحوَّل إلى قوَّة قاهرةٍ، بعد أن كان أنقاضًا بالية خاوية في تصوُّرنا، ثم اجتمع على صعيدٍ واحد، فانتقم لنفسه، وانتقم من قاتله: فالإله قد انتقم، ولقد نسيناه، واعتقدنا أننا لم نعد في حاجة إليه.. والإنسان قد انتقم، بعد أن بشَّرناه بأنَّ الآلة ستقوم مقامَه، وسوف لن يـُحتاج إليه أبدًا.. والروحُ قد انتقمت، والحرية كذلك انتقمت، والتاريخ والحضارات مجتمعة انتقمت..

ونحن من خلال وباء الكورونا، شهدنا عملية الانتقام، وتحوَّل كل ما قُتل إلى قوَّة قاهرةٍ، وإلى حقيقة لا يمكن الاستخفاف بها، ولا التخفّي عليها، كما كان الحال من قبل.

ومجرَّد مشاهدة مواطن من “منهاتن” يصرخ في شارع خاوٍ على عروشه، داعيًّا الله تعالى، قائلاً: “يا نيويورك توبي من ذنوبك، وتخلصي من قاذوراتك وخطاياك…”، بمجرَّد حدوث ذلك، وانتقاله السلس إلى وسائل التواصل، هو دليل على أنَّ شيئا ما قد حدث، وأنَّ الإله قد انتقم بطريقته، سواء أدرك ذلك الكونغرس، والرئيس، والوزير، والعالم، والمحلل.. أم لم يدركوا.

كيف تابعتم استجابة العقل المسلم لهذه النازلة.. خاصة على المستوى الفقهي، وما ثار من جدل حول وَقْف الجُمع والجماعات؟

أفضّل صيغة “عقل المسلم” على “العقل المسلم”؛ لأنَّ مجرَّد وصف العقل أنه مسلمٌ، يفترض فيه الكمالَ، والاستسلام، والخيرية المحضة، والمثالية المطلقة.. أمَّا حين يُنسب العقل إلى المسلم “عقلُ المسلم”، فإنَّ ما يلوّن الإنسان بالضرورة يتلوَّن به العقل؛ ولقد كان “عقل المسلم”، ولا يزال، رهينَ استقطابات عنيفة.. عبدَ ثنائيات سخيفة…سجين أيقونات مبتسَرة.

من ذلك أنَّه طرح في شقه الأوَّل “نظرية المؤامرة”، واستخفَّ بكلّ ما يرد إليه من حقائق حول الوباء؛ فكانت النتيجة كارثيةً في المستوى الصحي والفكري، الوجداني والاجتماعي..

ثم من جهة أخرى، وُجد شقٌّ ثانٍ من “عقل المسلم”، اعتقد أنَّ الأمر “علميٌّ/ طبيعيٌّ” كلية، وأنَّ السياسة لا دخل لها في المسألة؛ فما كان منه إلاَّ أن زرع الخوفَ في أوصاله، وكان تابعًا لكل ما يرد إليه من معلومات، حتى ولو كانت متناقضة، بلا تثبت ولا تريث؛ فأتى بذلك على أخضره ويابسه..

فـ”عقل المسلم” لا يزال في أغلب أحكامه “عقلاً عبدًا” كما يصفه البشير الإبراهيمي؛ ولا يزال في كثير من أفعاله وردَّات فعله “مستحمَرًا” كما يصفه علي شريعتي؛ غير أنَّ مدلول “الاستخفاف” الوارد في قوله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} أعتمده بديلاً تفسيريًّا؛ لأني أجدُه أقوى دلالة، وأبعدَ معنى.

يقول ابن الأعرابي شارحًا لمعنى الآية، أي: “فاستجهل قومَه فأطاعوه، لخفَّة أحلامهم، وقلة عقولهم”، وقيل “قهرَهم” فرعونُ، وقيل: “وجدهم خفاف العقول” فأذلَّـهم.

فهل ثمة وصف أبلغ من “خفَّة العقل” لإنسان مرتبط بالشاشة صغيرِها وكبيرها، متعلقٍ بـ”السيلفي” بديلاً عن الحياة كما هي… إنسانٍ يلبس على وقع “ادْيُور” (Dior)، ويشرب على نخب “ماكدونالد”، ويمضي ليله على آثام “هوليوود”، ويهرق عاطفته لصالح “البارسا أو الريال”…؟

أمَّا فقهيًّا، بخاصَّة أحكام الكورونا، من قبيل الإفتاء بإغلاق المساجد، فأجد فيه نوعًا من الوعي، وقوة الواقع الفقهي الرسمي، الذي تغلَّب على الفقه المذهبي، وعلى “فقه الجماعات”؛ إذ رغم ظهور فتاوى رافضة لبعض الأحكام، ومنها حكم إغلاق المساجد، إلاَّ أنَّ السلطة كانت إلى جوار الفقيه، وكان الفقيه سندًا للسلطة، فتمَّ التحكم في الأمر؛ وهو إيجابي إلى حدٍّ بعيد في مثل هذه الظروف، ولم تكن العلاقة دائمًا بهذا المستوى في ظروف الرخاء، للأسف.

ولا ريب أنَّ “عقل المسلم” ليس كلَّه في حالة “عطبٍ وعطلٍ”، وإنما ثمة مبادراتٌ وجهودٌ، وثمة بوادرُ تبشر بغد جديدٍ، وبأملٍ وليدٍ؛ ومن جملة هؤلاء: علماءُ، وأطبَّاء، وإعلاميُّون، وسياسيُّون، ورجال أمن وإغاثة، ورجال التربية والصناعة، ورجال مبادرون ونساء مبادرات، وشباب ذكي وشابَّات متميزات، من داخل الأوطان أو من خارجها… إلخ.

ولكن، ومن ثم نحن لا نفكر بمبدأ “الثالث المرفوع”؛ إذْ ما بين “عقلٍ خاملٍ”، و”عقلٍ ناقمٍ”؛ ثمة عقلٌ فطنٌ هو ما نسمّيه “الثالث الموضوع”؛ ولنا كلُّ الأمل فيه، حتى لا يُستخفَّ من جديد، وحتى يبقى على يقظته لأوقات أخرى من رخاء وشدَّة، ومن فقدٍ ووجدٍ..

يقول أحد الفلاسفة، وصدق فيما قال: “العقل أعدل قسمة في الوجود من الله تعالى لبني البشر، وإنما الفرق في إعماله أو تعطيله، ثمة تكمُن المشكلة برمَّتها”.

مقصد حماية حياة الإنسان، وعلاقة ذلك بالحفاظ على الدين.. كيف ترون الأزمة وتداعياتها من خلال هذا المقصد؟

لا أقرأ الكليات الخمس من بُعدٍ واحد، أي أنَّ حفظ الدين مقدم على حفظ النفس، وحفظ النفس أولى من حفظ العقل، وحفظ العقل قبل حفظ النسل، وحفظ النسل سابق لحفظ المال؛ وإنما أقرأها من خلال مصفوفة تضيف للكليات أبعادها الثلاثة: الضروريّ، والحاجيّ، والتحسينيّ.

من هذه الزاوية أجد أنَّ حفظ النفس في مستوى الضروريّ أولى من حفظ الدين في مستوى الحاجي مثلاً؛ ومن ثم فإنَّ صلاة الجماعة ليست فرضَ عينٍ، وليست من باب الضرورات؛ ولكنَّ الحفاظ على روح الإنسان، ومنع المرض والموت عنه هو من قبيل الضرورات، رغم أنه من باب حفظ النفس؛ فيكون الضروريُّ من كلّ كلية أعلى درجةً من الحاجي، ويكون الحاجيُّ من كل كلية أوكد في الحفظ من كل تحسيني.

وأرى أنَّ هذا المقصد كان ولا يزال هو “سبب الحفاظ على أرواح الناس” حين نزول الوباء، رغم صعوبة الموقف، وخطورة القرار؛ بل إنه لو افتُرض جدلاً اتخاذ القرار خلافًا لهذا السلَّم، وتُركت المساجد مفتوحة بدعوى حفظ الدين، ثم حصدت الموتُ المئات والآلاف؛ لكان هذا مدخلاً كافيًا للتشكيك في الدين وصلاحيته، ولكان لقمةً سائغة للمتربصين؛ ولكان انحرافًا خطيرًا عن مقاصد الشريعة الغراء، وروحها السمحة.

ولا أدلَّ على ذلك من أن “لقاءً دينيًّا واحدًا، غير إسلامي” في فرنسا، كان سببًا لكل ما انتهت إليه من كارثة إنسانية؛ ولو أنَّ اللقاء كان إسلاميًّا، لطبَّلت وسائل الإعلام وزمَّرت، ولدوَّخت العالم بسبب ذلك.

اتخاذ التدابير الوقائية والعلاجية، يرسِّخ قانون “السَّببية”.. هل يمكن القول بأن وعينا الجمعي مازال يحتاج إلى جهد في هذا الصدد، خاصة أننا شاهدنا بعض السلوكيات التي لم تلتزم بالتنبيهات والإرشادات؟

في كثير من الأحيان نتوهَّم التناقض بين “اتخاذ الأسباب” و”الإيمان بالقضاء والقدر“؛ ونظنُّ أنَّ السببية شكلٌ من أشكال الشرك، وأنَّ الإيمان لا بدَّ نافٍ للسببية؛ ولا أدلَّ على هذا من حوارٍ علمي فلسفي تاريخي بين أبي حامد الغزالي، وابن رشد؛ من خلال “تهافت الفلاسفة”، و”تهافت التهافت”؛ ثم تكرَّر هذا الحوار- في سياق آخر- بين أشهر عالمين في الفيزياء المعاصرة وهما: أينشتاين وبور، من خلال “مبدا الريبة”، و”قانون السببية”.

وأنا أعتقد أنْ لا تعارض بين اتخاذ السبب والتوكل على الله، وتعجبني قاعدةُ “اعقلها وتوكَّل” التي جاءت في الحديث الشريف، دالَّة كلَّ الدلالة على هذا الوصل بديلاً عن الفصل.

ثم إنَّ بديع الزمان النورسي طرح صيغة لا تزال مفسِّرة في نظري، وهي “أنَّ الأسباب يدُ الله في قدره، فلا يجوز أن نردَّ يده ونطلب ذاته”.

حذَّرتم في تدوينة لكم من التسرع في تداول المعلومات عن الأزمة، ومن عدم التثبت في نقل الأخبار.. نريد توضيح خطورة “الكلمة”، لاسيما عند الأزمات؟

أثناء الحروب، قد تكون كلمةٌ واحدة سببًا في هلاك جيش أو أمَّة برمَّتها، ولقد عالج “كيث دفلين” في كتابه “تحويل المعلومة إلى معرفة” ما سماه “نظرية الحالة”، وبيَّن أنَّ خطأ واحدًا في سياق الكلام، كان سببًا لاصطدام طائرتين، وموت أزيد من 500 راكب، في مطار من مطارات أمريكا، التي ذكر تفاصيلها، وقال إنَّ مثل هذا الخطأ في الكلمة يتكرَّر دومًا في حياتنا اليومية.. أمَّا إذا كان التسرُّع والجهل هما سبب الخطأ، فإنَّ الخطر سيحتدُّ، والأزمة سوف تكُبر.

ومثال ذلك، أن يعلن أحدٌ أنَّ ثمة حالة مصابة بالوباء في المكان الفلاني، دون أن يكون مخوَّلا، ودون أن يتبين؛ ثم ينتشر الخبر عبر وسائل التواصل، ثم توضع تلك المنطقة، أو العائلة، أو المدينة… في “حَجْر معنوي”، يحرمها من كثير من كرامتها، وحريتها..

وبعد مدَّة يتبين أنَّ الذي عجَّل بالكلمة إنما كان طالبًا “للسبق الصحفي الموهوم”، و”البحث عن عدد أكبر من “الجامات واللايكات” ليس إلاَّ، وأنه مجرَّد ناقل أحمقَ؛ وتعجبني عبارةُ: “الإشاعة يؤلفها الحاقد، وينشرها الأحمق، ويصدقها الغبيُّ” وأضيف إليها: “ويستخفُّ بها خفيف العقل”.

ولقد كتبتُ مقالاً بعنوان: “عرفتَ فالزم: الصمتُ أو الكلام… أوان الكورونا” أحلّل فيه هذه الظاهرة؛ ومما جاء فيه: ” لا أعرف خُلقًا صعبَ المراس، نادرَ الوجود في مذهب الناس، مثل خُلق “الصمت” حين يحلو الصمتُ، و”الكلامِ” حين يتعين الكلامُ”.

لا شك أن هذه الأزمة لها جوانب وتأثيرات اجتماعية واقتصادية، تتطلَّب التكاتف والتراحم.. ما أهمية التفات الخطاب الدعوي لهذا؟

المجتمع المسلم متكاتف بالفطرة، والتفكك عارض فيه؛ وحين يكون المجتمع في صحة جيدة، تجد الفقير والغنيَّ في تواد وتراحم، وتجد الصحيح والسقيم في مواساة وتزاورٍ؛ لكن حين يتغرَّب المجتمع، وتشهِر الأنانية مخالبَها وأنيابها، يكون التكاتف والتضامن متكلَّفا، وقد يتحوَّل إلى مؤسَّسات رسمية باردةٍ؛ ولذا ففي رأيي يكون التراحم أساسًا في مستوى “خلية الأسرة”، ثم تدعمه الجهود الجمعوية، لا العكس.

أمَّا الخطابُ الدعوي فهو “رهين حاجات المجتمع”، وهو “رهن ضرورات الناس”؛ وإلاَّ كان خطابًا أجوف؛ ولقد لاحظنا أنَّ الإنسان المسلم لا يستجيب إلاَّ لأمر الشَّرع، حتى ولو لم يكن ملتزمًا بأحكام الشارع؛ فحين أمر الأطباء الناس بالمكوث في البيوت، وبإيقاف الأعراس والتجمعات.. مثلا؛ تلقَّى الناسُ ذلك بكثير من التشكيك والاستهتار؛ أمَّا حين تدخَّل العالـِم، والفقيه، والدعويُّ… وأصَّلوا لذلك، ودعوا الناس إليه؛ وجدنا الاستجابة تكاد تكون مطلقةً، والتسليم يكاد يشمل مناحي الحياة جميعهًا.

تسلِّط أزمة “كورونا” الضوء على واقع البحث العلمي في بلادنا العربية.. ما السبيل للاستفادة من ذلك؟

فضحتْ أزمة كورونا من بين ما فضحت “منظومَتنا العلمية”، وبيَّنت أننا توقفنا في جامعاتنا عند عتبة التلقين، وانتهينا إلى باب الوظيف؛ وأننا حقًّا لم نُعِدَّ أنفسنا للبحث العلمي الحقيق، وما سميناه بحثًا علميًّا في كثير من الأحيان، إنما هو “مضغ حجرٍ”، و”رجع صدًى”، و”ترداد لما هو من المألوف مما وجدنا عليه الآباء”، أو “ببغائية لما هو غربي صرف، مما انساق إليه الأبناء”..

إذا لم نعالج هذا التشوُّه، فإننا سنعود إلى نقطة الصفر، وسنخسر في طريق الربح، بينما مَن أولى أهمية للبحث العلمي قد يربَح في طريق الخسارة؛ والتحدي صعب غير أنه ليس مستحيلا.

ومن عجبٍ أني حاولت أن أهتدي إلى قراءة جادَّة للأزمة من خلال مراكز للبحث العلمي في العالم العربي، ولكني انتهيت إلى الصفر، والقليلُ الذي توصَّلت إليه كان سطحيًّا إلى حد لا يوصف.

وهذا الحكم لا ينفي وجود جهودٍ خفيت عليَّ، ولكنه يشير إلى أنها حتى لو وُجدت لا ترقى إلى حدّ “الهيمنة العلمية” على غيرها من الأعمال، وإنما هي في الغالب تابعةٌ، شارحةٌ، مفسّرةٌ.. لا غير.

“كورونا” أزمة لها أبعاد متعددة، تحتاج إلى رصد ومتابعة وتحليل؛ حتى رأى البعض أن العالَم بعد كورونا غيره قبلها.. نريد إلقاء الضوء على ذلك؟

قرأت مقال نعوم شومسكي، وهو من الأقلية النادرة التي استطاعت عبر السنين أن تكون مستقلَّة في طرحها، قوية في وجهة نظرها، مقنعة في حجَّتها؛ على غرار إدغار موران، وإدوارد سعيد مثلاً؛ وعنوان المقال: “ما بعد كورونا أخطر من الوضع الراهن” ومما قاله:”إنَّ فيروس كورونا التاجي خطيرٌ بما فيه الكفاية، لكن من الجدير بالذكر أننا نقترب من الرعب الأعظم، وهو السباق إلى حافة الكارثة، وهو حدث أسوأ بكثير من أي شيء حدَث للإنسان عبر التاريخ”.

في حوار طريفٍ مع ابنتي البالغة من العمر تسع سنين، وهي في حَجر صحِّي جاوز الشهرَ، سألتني: متى الاستقلال يا والدي؟

بدايةَ الأمر، استهجنتُ العبارة، ولم أستسغها؛ ثم ترددتُ وقلت لها: لم أفهم ما تقصدين من كلمة الاستقلال، بنيتي؟ قالت: حين ينتهي الحجر الصحي، نكون قد أخذنا استقلالنا، ونكون أحرارًا، ثمَّ نحتفل بذلك، ونزور جدي وجدتي، وأعمامي وأبنائهم، وجيراني، ومدرستي، وشاطئ البحر القريب منا.

فقلت لها: صدقتِ، نحن لم نعش في عمرنا الطويل لحظةً مثل هذه، فليكن يوم الفرج من الوباء يومَ استقلال لنا، ولنسأل الله أن يعجّله.

ثم تذكَّرتُ أنَّ مالك بن نبي، حين نكصنا على أعقابنا لشدَّة فرحنا، قال: “انهزمت الجزائر يوم الخامس من جويلية 1962م” أي يوم استقلالها؛ ذلك أننا خسرنا معركة العلم، ومعركة الحكم، ومعركة الصنعة، ومعركة الثقافة، والفكر، والوعي… إلخ.

ما بعد كورونا، هو مختلفٌ باعتبار عمَّا مضى، وهو شبيه إلى حدٍّ كبير بما مضى؛ فالأصول والثوابت والمنطلقات ستبقى هي هي، والأفكار إذا نصرناها نصرتنا، وإذا خذلناها انتقمت منا؛ لكنَّ القناعات، والوقائع، والوسائل، والسبل، والجهود.. لا بدَّ لها من تحوُّل وتغيُّر، وإبقاء وانتقاء..

ولكني أجد أنَّ أكبر قيمة ينبغي أن ندافع عنها بشراسةٍ بُعيد “الاستقلال الجديد”، هي قيمة “الحرية”؛ ذلك أنَّ الحرية كفيلة أن تمنع عنا “كلَّ موت وفناء”، وأنها قمينة أن تحفظنا من “انتقام ما قتلنا عبر القرون”؛ فهي فكرةٌ تعيد لكلّ شيء مكانه، وتربط كلَّ مسبب بسببه، ولذلك يقول علي عزت بيجوفيتش، في كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب”: “الله والحرية لا ينفصلان.. فإذا سلَّمنا بحرية الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله، فإننا بذلك نعترف بوجود الله، إمَّا ضمنا، أو صراحة.. والله وحده هو القادر أن يخلق مخلوقا حرًّا، فالحرية لا يمكن أن توجد إلاَّ بفعل الخلق”.

فهل سنغتال ما اللهُ تعالى خالقُه، مرَّة أخرى؟ أم أنَّنا سننصر خلقَ الله تعالى، وننتصر لما أمر الله سبحانه، ونؤوب إلى الله جلَّ جلاله؛ فنكون بذلك أهلاً لعمارة أرض الله، وخلافة الله في أرضه؛ سهلاً لقيادة “البشرية الحائرة” إلى برِّ الأمان، وإنقاذها من الارتطام بـ”الكارثة الكبرى” مرَّة أخرى؟

ولا يكون ذلك إلاَّ بالاهتداء بنور القرآن الكريم، والاقتداء بالهدي النبوي الشريف، والتزام الحقّ المبين، ومحاربة الشرّ المكين؛ والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهيِ عن المنكر؛ مصداقًا لقوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم}. الأيام كفيلة بالبوح بحقيقة ذلك، وبتصديقه أو تكذيبه، والله سبحانه أعلم وأحكم، وهو ولي المحسنين.