تهتم الفلسفة بثلاثة مباحث أساسية، هي: الوجود، والقيم، والمعرفة، ومنذ تسيد الفلسفة الوضعية للفكر الفلسفي منذ عصر الأنوار[1]، تم تغييب الدين عن كثير من مجالات الحياة، فاختلفت نظر الإنسان للوجود، من محاولة فهمه باعتباره مجالا للتدبر والوصول إلى الخالق سبحانه وتعالى، إلى مجال آخر وهو فصل الوجود عن خالقه، ومحاولة السيطرة عليه.

وكان هذا أحد مواضع الخلاف الكبرى بين الفلسفة الإسلامية المعاصرة والفلسفة الوضعية، وتأسيسا على ذلك أخذت مجموعة من المفكرين المسلمين في صياغة نظرية للمعرفة تنطلق من فهم المسلم للوجود وكيفية تفاعله معه، فأصدر “إسماعيل راجي الفاروقي” عام 1983م كتابه “إسلامية المعرفة: المباديء العامة وخطة العمل” وتم إنشاء “معهد إسلامية المعرفة” بجامعة “الجزيرة” في السودان عام 1990، ولم تمض سنوات حتى صدرت “مجلة إسلامية المعرفية”[2] في (المحرم 1416 هـ = يونيه 1995م) وكتب رئيس تحريرها الدكتور “طه جابر العلواني” مقالا افتتاحيا بعنوان “لماذا إسلامية المعرفة؟”  اعتبر فيه أن المجلة تسد ثغرة في الفكر الإسلامي، باعتبارها تيارا فكريا ومنهجيا، يرفض التعارض بين الوحي والعقل، ويرى وحدة المعرفة وتكاملها، وأن العقل وسيلة وليس جوهرا مستقلا.

وبعد ربع قرن من صدور (99) عددا من “إسلامية المعرفة” تغير إسمها إلى “الفكر الإسلامي المعاصر” لتصدر نصف سنوية، فصدر العدد الأول في شتاء 2020 في (220) صفحة، دون أن يقدم نقدا للتجربة، ودون تقييم للنجاحات أو التعثرات التي قطعتها “إسلامية المعرفة” فكرة ومنهجا في الفكر الإسلامي المعاصر، ودون إفصاح عن الأسباب التي استدعت تغيير الإسم، الذي لم يرتحل بعيدا عن الفكرة.

وقد اشتمل العدد على موضوعات، منها: “التربية الفكرية من منظور إسلامي”، و”الفكر الإسلامي بين التعاضد النقلي والتمايز النقدي”، و “مفهوم الحق وإعادة تأسيس علم المقاصد في الإسلام” و”مقصد إصلاح العقل في القرآن وتجليات العقلانية في العلوم الشرعية؛ علم أصول الفقه نموذجا”.

إلحاح سؤال النهضة

قبل ستة قرون كتب العلامة ابن خلدون في مقدمته “وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض، فبادر بالإجابة”، ورغم مضي الزمان فمازالت حالة التراجع الحضاري تضرب المغرب والمشرق الإسلامي فبضاعة الوهن والضعف لها رواجها، والحيرة الفكرية تمتد بعدما رسخها الاستعمار، ولم يتوقف تزاحم الأسئلة على “الذات المسلمة” ولكن تعداه إلى “الآخر” الذي أصبح جزءا من الحيرة والقلق، وسؤال النهضة مازال محل استقراء ومراجعة ومواكبة، وفحص من حيث الأفكار والغايات والآليات اللازمة للنهوض، فالسؤال له ارتباط وثيق بمنهجية التفكير.

ناقش العدد “التربية الفكرية” مؤكدا أن الفكر التربوي الإسلامي لم يعطها نصيبها من الاهتمام في ظل انصرافه إلى العناية بالتربية الروحية والأخلاقية، وهو ما تسبب في خلل في حقل التربية في جانبه الفكري نتج عنه انحرافات في فهم الدين، فالتربية الفكرية، هي: تربية العقل على المناهج الصحيحة في البحث عن الحقيقة النظرية، وفي توظيف تلك الحقيقة في تدبير حياته الفردية والجماعية تدبيرا عمليا.

ولكي يكون النظر العقلي سديدا لابد أن يُؤخذ بتربية مقصودة، ولشدة ما بين العقل والفكر من التلازم، فإن التربية الفكرية تتبادل المصطلح مع التربية العقلية، فالعقل هو آلة التفكير، والتربية الفكرية تنصب على أداء الفكر، وعلى الآلة نفسها وهي: العقل.

وللمعتقدات تأثير في صياغة الأفكار وفي الإيمان بها، وهو ما يجعل التربية الفكرية على علاقة وطيدة بأفكار الإنسان ومعتقداته في اتجاهي التأثير والتأثر، فالدين يُكلف الإنسان بالإيمان، ويكلفه، كذلك، باستعمال العقل الاستعمال الرشيد من خلال منهج صحيح يؤدي إلى بناء معرفة حقيقة، لذا كانت أعلى مراتب الإيمان هي: الإيمان المتحصل من التأمل العقلي، أما الإيمان الموروث، وإن كان مقبولا، لكنه يقع في أدنى درجات الإيمان؛ فالطريق إلى الإيمان المعتد به هو الفكر الرشيد.

العناصر الأساسية للتربية الفكرية

يلاحظ أن الخصال الفكرية التي يتربى عليها العقل تأتي بالمران المتراكم عبر الزمن، وهذا يتطلب الآتي:

التحرر الفكري: فالفكر إذا فقد الحرية وقع في التقليد، وجاءت الشريعة بأحكام وتوجيهات تُلزم بالتحرر الفكري[3]، وهو ما يندرج ضمن مقصد حفظ العقل.

التوحيد والمؤالفة: وهي صفة يكتسبها العقل تجعله في التفكير يؤالف بين المعطيات التي يتوفر عليها، ويرد بعضها إلى بعض بحسب التماثل والتشابه، ويوحدها في معيار دلالي، يكون أساسا لمبدأ واحد، تنبني عليه الرؤى والحلول، وهذا يقتضى أن تكون الأحكام المعرفية مُوحدة المعايير لتنسجم نتائجها ولا تتناقض، سواء أكانت معرفة كونية أو شرعية أو إنسانية.

توسيع دائرة النظر: وتعنى أن ينطلق البحث من أوسع دائرة ممكنة فيما يتعلق بموضوع بحثه، وهذا المسار هو الذي ينتهي بالفكر إلى تكوين الرأي، وتقدير الأحكام، بطريقة كلية من النظر في الجزئيات.

واقعية المنطلق المعرفي: ويقصد بها تربية العقل على أن ينطبع تفكيره في البحث عن الحقيقة، وفي تقدير المواقف والأحكام، بطابع الانطلاق من الواقع، ويُقابل هذه الصفة الفكرية صفة “المثالية المجردة” التي يكون فيها العقل في حركته الفكرية منغلقا دون الواقع المحسوس مستغرقا في التأمل المجرد الذي ينطلق من المثالية وينتهي إليها.

التبيـن (المقارنة النقدية): وهي صفة يكون بها العقل منفتحا على الآراء المختلفة المتعلقة بموضوع بحثه بما فيها الآراء المتناقضة والمتقابلة، فمثلا الإمام الطبري عمد في تاريخه إلى إيراد جميع ما وصل إليه من روايات دون مصادرة، وهو ما يكشف عن سعة علم بآراء الآخرين.

الانفتاح الحواري: وهي انفتاح العقل في حركته الفكرية على الآراء المختلفة، ويقابلها صفة الانغلاق الفكري، وهي حالة يقتصر فيها العقل على ما توصل إليه من رأي.

إصلاح العقل

يوصف التفكير بأنه عقلاني عندما يربط الأفكار بعضها ببعض في نسق برهاني، قصد إدراك الحقائق، لذلك كان لابد من تمرين العقل على التفكير الرشيد بما يوسع مداركه، ولابد أن تقوم العلوم بدور في التربية الفكرية، ومن تلك العلوم: علوم المنطق، التي تربي العقل على التفكير الصحيح، ونبه الإمام الغزالي إلى ذلك بقوله: “من لا يُحيط بعلم المنطق، فلا ثقة في علومه أصلا”، كذلك لابد من الاحاطة بالعلوم والمناهج الحديثة، ومعرفة العلوم المنهجية الشرعية وعلى رأسها علم أصول الفقه، الذي تُستخرج فيه الأحكام من أدلتها الشرعية.

والعقلانية الإسلامية نشأت في ظل الوحي، استجابة لدعوة القرآن إلى إعمال العقل، ومن هنا كان حفظ العقل مقصدا ظاهرا في القرآن الكريم، فعلى أساس العقل السليم والتفكير السديد تأسست العلوم الشرعية خادمة للوحي، وشكلت تلك العلوم أهم تجليات العقل المسلم الذي تشرب الوحي، ويرى المفكر المغربي “محمد عابد الجابري” في كتابه “مدخل إلى القرآن الكريم” أن ما يميز الإسلام رسولا وكتابا مقارنة بغيره من الديانات، هو: خلوة من “ثقل الأسرار” التي تجعل المعرفة بالدين تقع خارج تناول العقل، وتصبح حكرا على فئة قليلة من الناس.

ومن أبرز مميزات الخطاب القرآني في حفظ العقل: الإشادة بالعقل ودوره في الفهم والعلم والتفكير، ومخاطبة العقل الفطري[4] في بناء العقيدة، ومن ذلك حديث القرآن عن مبدأ السببية، وإبطال المصادر غير العقلانية في المعرفة.

وللقرآن منهج فريد في بناء التفكير السليم، يمكن تحديد عناصره في الآتي:

اعتمـاد الدليل الصحيح في مجاله الصحيح: وقد اشتهرت بين علماء المسلمين قديما مقولة:”إن كنت ناقلا فالصحة، أو مُدعيا فالدليل” ومقولة: “العلم إما نقل مُصدق، وإما استدلال مُحقق”.

التحذير من توهم الدليل: ويتجلى هذا المعني في المُحاججة بين إبراهيم-عليه السلام- والنمرود في مسألة الحياة والموت، فقد توهم “النمرود” أن القتل يرادف الموت.

التحذير من الحكم دون دليل: لذا طالب القرآن الكريم بالدليل والبرهان.

التحذير من الانخداع بالظواهر وسطوة العوارض: فالحواس قد تُخدع، ويؤثر ذلك في إعمال العقل، كما قد يعرض للإنسان ما يُفقده القدرة على إعمال فكره، وهو أمر تناوله القرآن الكريم في ظاهرة السراب، التي تخدع النظر وتؤثر على حكم العقل وإدراكه.


  • [1] المقصود “بعصر الأنوار” القرن الـ 18 الذي ظهرت به حركة فكرية فلسفية واسعة في أوروبا و في فرنسا على الخصوص، اتخذت من الإنسان و حقوقه أساسا للمواضيع المتناولة سواء في الميدان العلمي أو السياسي أو الإنساني و جعل العقل حكما لرفض أو قبول أي شيء
  • [2] قدمت قضية “إسلامية المعرفة” نفسها في البداية عبر “المجلة الأمريكية للعلوم الاجتماعية الاسلامية” (AJISS)، وعبر صفحات مجلة “المسلم المعاصر” وبعد اثني عشر عاما، صدرت مجلة “إسلامية المعرفة”
  • [3] من ذلك ذم القرآن الكريم لتقليد السابقين بلا وعي، وذم كذلك اتباع الهوى وأوجب على العقل التحرر من سلطان الهوى عند النظر للأمور، يقول الإمام الرازي:”القول في الدين بمجرد التقليد حرام؛ لأن القول بالتقليد قول بمحض الهوى والشهوة”، كذلك أن يتحرر من الأوهام والخرافات
  • [4] يُعرف الإمام “الباقلاني”العقل الفطري بأنه:”علـم ضروري بجواز الجائزات، واستحالة المستحيلات، كالعلم باستحالة كون الشيء الواحد قديما وحديثا، واستحالة كون الشخص الواحد في مكانين”