قد يبدو الحديث عن “الفرص” في أزمة وباء كورونا؛ الذي اجتاح دولاً كثيرة من العالم، وأحدث تغييرات جذرية، لم يَسلم منها قطاع من القطاعات.. حديثًا غريبًا، أو متفائلاً أكثر من اللازم! لكن الحقيقة أن أي أزمة من الأزمات- على المستوى الفردي أو العام- لا تخلو من “فرص”، لمن تدبرها بعمق، ومَن لم تستغرقه الآثار السلبية.

نعم، لقد ترك فيروس كورونا بصماته، أو قُل: طعناته، على مناحي الحياة المختلفة؛ سياسيًّا، اقتصاديًّا، اجتماعيًّا، نفسيًّا. لكن وسط كل هذا الركام تتبدَّى نقاط ضوء كثيرة، نحن بحاجة للانتباه لها؛ لكي نحسن التعامل مع الأزمة.. وحتى نخفف بعض الشيء من تأثيراتها السلبية، وأهمها: التأثيرات النفسية.. ولكي نعيد تشكيل المستقبل تشكيلاً صحيحًا، وعلى ضوء الحاضر الذي ما زال يتشكل بفعل الأزمة التي لم تنتهِ بعد.

وقبل أن نشير إلى أهم “الفرص” التي أوجدتها أزمة كورونا، من المهم أن نشير إلى أهم “التأثيرات” التي خلَّفتها هذه الأزمة..

اقتصاديًّا: هزت الأزمة النظام الرأسمالي؛ إذ تدخلت الدول لدعم الاقتصاد الخاص، واتخذت عدة إجراءات لإنقاذ الصناعة.. كما حدث في الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008.

ثقافيًّا: بيّنت أن فكرة الحرية الفردية المطلقة يصعب مجاراتها؛ بل مطلوب تقييدها في ظرف ما، لصالح المجتمع.. كما رأينا في إجراء فرض الحظر الجزئي أو الكامل، وفي منع السفر.

سياسيًّا: بعض التجمعات، مثل الاتحاد الأوروبي، بدأ بعض مكوناتها يعيد النظر في التحالفات بينها، ويتجه للتقارب مع الصين، خاصة بعد ما أبدته بكين من تقديم العون والمساعدة، رغم عدم وجود علاقات متينة من قبل.

دوليًّا: أظهرت الأزمة ضرورة مراجعة سباقات التسلح؛ لصالح تشجيع البحث العلمي وتسخيره لخدمة الإنسانية.. وضرورة دعم منظمة الصحة العالمية، بخلاف توجه أمريكا- ترامب.

دينيًّا: دعمت الأزمة فكرة الإيمان، والتوجه إلى الخالق وقت الشدة.. فهذا شعور فطري يصعب حجبه.. وفي هذا السياق، رأينا الرئيس الأمريكي يدعو إلى تخصيص يوم الأحد 15 مارس يومًا وطنيًّا للصلاة. مضيفًا على “تويتر”: “نحن بلد، طوال تاريخنا، نتطلع إلى الرب للحماية والقوة في مثل هذه الأوقات”.

اجتماعيًّا: بيَّنت الأزمة حاجة المجتمعات للمؤسسات الأساسية، مثل الصحة والتعليم.. وأهمية تطوير أنظمتها.. ورعاية الشرائح المتوسطة والأقل.. وتأكيد دور المجتمع المدني في ذلك.

وإذا كانت هذه النقاط مجرد عناوين للتأثيرات المتعددة التي خلَّفتها أزمة كورونا.. وكاشفةً عما أحدثته في حياتنا، وما تزال.. فإن ثمة فُرصًا أيضًا حملتها الأزمة في طياتها.. نشير إلى أربعة منها:

أولاً: فرصة لدعاة الحوار العالمي

سواء على المستوى الثقافي أو السياسي؛ بهدف تحقيق التضامن في الأزمات العالمية التي هي أكبر من القدرات المحلية لكل دولة.

لقد أكدت هذه الأزمة ما كان واضحًا من قبل، من أن عالمنا قرية واحدة، بل بيت واحد، وربما حجرة واحدة.. صحيح أن بداخل هذه البيت تمايزات؛ فالتقارب لا يعني الوحدة والتساوي.. لكن هذا التقارب- حتى مع وجود التمايز- يفرض تعاونًا يمكِّن من مواجهة الأخطار التي لا ينجو منها أحد.. وسيكون من الأفضل لو تمت مواجهة هذه الأخطار بنوع من تبادل الخبرات وتنسيق الجهود.

ثانيًا: فرصة لدعاة المحافظة على البيئة

فلا شك أن الاعتداء على البيئة، وعدم الالتزام بالمعايير البيئية خاصة في الصناعات الثقيلة، له تأثيراته السلبية على الإنسان والمناخ، مما يوفر بيئة خصبة للأمراض والفيروسات.. ولعل ظهور كثير من الحيوانات- أو حتى التماسيح، كما في ولاية كارولينا الجنوبية- وهي تتجول بحرية في الشوارع ، بعدما غاب الإنسان؛ يشير إلى أن تنفس الطبيعية صار مرتبطًا بعلاقة عكسية مع تمدد الإنسان واعتدائه غير المسبوق.. وقد حان الوقت لنحدث توازنًا مقبولاً بين الإنسان وجيرانه في هذا الكوكب، من مواد خام وكائنات حية.

ثالثًا: فرصة لدعاة الاقتصاد الحر المسئول، أو “الرأسمالية الاجتماعية”

فمن الخطأ النظر للمال أو التعامل معه دون الأخذ في الاعتبار أن عليه وظيفة اجتماعية، وأنه لا يمكن إطلاق اليد لأرباب المال ليلهثوا خلف جني الأرباح.

الدولة عليها دور في إرساء هذه الوظيفة الاجتماعية لرأس المال.. ورجال الأعمال أيضًا عليهم أن يشعروا بهذه المسئولية؛ وبالتالي، لا يمكن ترك الطبقات الوسطى وما دونها عرضة للاهتزاز خاصة في الأزمات.. أو التخلي عنها دون مراعاة المخاطر التي يمكن أن تنجم عن ذلك.

رابعًا: فرصة للخطاب الديني كافة، والإسلامي خاصة

ليثبت حضوره وكفاءته في تقديم خطاب يلبي أشواق الروح ويقنع العقل، وينقذ الإنسان من التيه الذي تخلِّفه الأزمات.

إن الأزمات الحادة كما تطبع بصماتها على حياة الإنسان اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، فإنها أيضا تترك بصماتها على حياته الروحية.. فنرى انتشار القلق واليأس والفزع، بما قد يصل للبعض إلى الانتحار.. ونرى التساؤلات الكبرى حول وجود الإنسان والغاية من خَلقه، قد عادت للظهور.

لقد ذكر مراد هوفمان أن محمد أسد كان قد تنبأ قبل الحرب العالمية الثانية، بزيادة عدد الداخلين في الإسلام.. لأن أزمة كبيرة، مثل تلك الحرب، تترك النفوس والعقول في حيرة واضطراب وقلق.. ومن ثم، يكثر البحث عن المنقذ والهادي.. الذي لن يكون غير الإسلام.

إن الإيمان فطرة مركوزة في الإنسان.. ومهما طمستها عوامل كثيرة، فإنها تلمع في الأزمات.. المهم أن يكون الخطاب الديني مؤهلاً للإجابة عن التساؤلات التي تطرحها أزمة عميقة بحجم أزمة كورونا، وأن يستعد لما بعد تلك الأزمة؛ بحيث تجد العقول التائهة أجوبةً لديه مقنعةً وافية.. فأزمة عالمية مثل هذه تحتاج خطابًا عالميًّا واعيًا.

هذه بعض “الفرص” التي تتيحها أزمة كورونا، رغم ما فيها من “تأثيرات” و”تحديات”.. وتلك طبيعة الأزمات، تقترن فيه التحديات بالفرص.. والعبرة لمن اعتبر، والنجاة لمن أحسن التعامل معهما.