في أنشطتنا التدريبية، عادة ما نفتقر إلى أدوات وخطط من شأنها تعزيز التعلم وتحقيق قدر عال من الفاعلية والتأثير، فضلا عن عدم توفيرها أدوات لقياس النتائج.. ولعل برامج تطوير الذات في مجملها، بحاجة إلى (تطوير) يشمل الاهتمام بضرورة استخدام أدوات ونماذج لإضفاء مزيد من العلمية والقياسية إلى البرامج المقدمة.

في صدر المقالة، سنتعرف على خطة مقترحة للمعلمين ومدربي التنمية الذاتية، أطلقت عليها “خطة الأنشطة الأربعة” في مسعى لتعزيز نجاحات البرامج الجارية، والتمهيد لأفكار جديدة في ذات الميدان.

تفترض خطة “الأنشطة الاربعة” أن عامة أنشطتنا الشخصية قابلة للتصنيف تحت أربعة عناوين رئيسية، ويضم كل منها تفاصيل وأمثلة قد تتباين لدى الأشخاص، لكنها متجانسة بدرجة عالية في العناوين الكبيرة.

تمثل المعرفة العنوان الأول في “رباعية الأنشطة” وتليها الرياضة، فالعمل، ثم التطوع. وأقصد بالمعرفة كل الأنشطة المتصلة بالتعلم والتحصيل المعرفي، بغض النظر عن أدوات التعلم ووسائله، وما إذا كان مؤسسيا نظاميا أم حرا مفتوحا.. أما الرياضة فأقصد بها “كل الأنشطة المتعلقة بالرياضة والترفية والألعاب، بمختلف صورها وأنماطها”. وأعني بمنشط العمل “جميع الأنشطة المهنية والإنتاجية، وكل ما يطلق عليه عملا في العادة”.. ويلي العمل، النشاط التطوعي وإن كان في حقيقته، نوعا من ضروب العمل، إلا أن طبيعته ودوافع الإقبال عليه عادة ما تكون مختلفة عن العمل التقليدي الهادف إلى تحقيق عوائد مادية محددة.

في خطة الأنشطة الأربعة، يهتم (المدرب) بالتعرف على طبيعة وتفاصيل كل من الأنشطة الأربعة لدي كل (متدرب) على حدة، في محاولة من الخطة للتخلص من عادة “الوصفات السحرية” الشائعة في كتب ودورات التنمية الذاتية. إن تطبيق خطة الأنشطة الأربعة من شأنه بناء تواصل أكثر جودة بين المدرب والمتدرب؛ حيث يشعر الأخير بملامسة البرنامج التدريبي لأنشطته الفعلية ومخاطبته لما وراءها من احتياجات. على سبيل المثال، فإن التعرف على الأنشطة المعرفية الجارية للمتدرب يمنحه فرصة لاكتشاف ما يربط بينها من صلات وعلاقات، والتعرف على ما تعبر عنه من قدرات وملكات.. فضلا عن لفته إلى الاهتمام بمدى علاقتها بما يطمح إليه مهنيا واجتماعيا.

تهتم الخطة بما يتوفر من علاقات بين الأنشطة الأربعة للمتدرب؛ للتعرف على العلاقات الداخلية بينها، وما يربطها مجتمعة بما يطمح إليه المتدرب من نجاحات في المستقبل.

إن أنشطتنا الجارية ليست سوى (شخصياتنا) بكل ما نملكه من قدرات، وما نمتاز به من خبرات وجدارات، وما نطمح إليه من نجاحات.. ولعل “خطة الأنشطة الأربعة” محاولة مهنية لتقديم (أداة) سهلة من شأنها تعزيز نجاحات البرامج التدريبية ذات الصلة، وتحفيز شركاء التدريب ودعم جهودهم الهادفة إلى تنمية الإنسان. وقد علمتنا التكنولوجيا أن تغييرا طفيفا في إعدادات الهاتف مثلا، قد يعطينا نتائج مبهرة، وتغيرا كبيرا في واجهة التلفون ووظائفه.. وقل مثل ذلك في الريسيفر وغيره من أدوات العصر. وفي حقل التعليم والتعلم، قد نحتاج إلى سلسلة عمليات ﻹعادة ضبط المصطلحات والإجراءات والأنشطة والخطط، بغرض (تحريرها) من أسر السنين ومن تراكم المفاهيم الخاطئة أو غير الفعالة. إن كل ما نبذله من جهد في ميدان التعليم، لن يقتصر أثره في نفس الدائرة فحسب، بل سيتعداها إلى جميع الحقول والأنشطة والمجالات.

بعد تناولنا ملامح عامة حول خطة “الأنشطة الأربعة” لتنمية الذات.. وقد مثل النشاط المعرفي “التعلم” أول أنشطتها.. فإن ما يأتي تاليا، سيكون مكملا وداعما لما سبقه وإن كان من زاوية أخرى، ومن نافذة “الهوايات” على وجه التحديد.

“في التعليم نحن نعلم الناس كيف يتذكرون بدلا من أن نعلمهم كيف يكبرون”.

أوسكار وايلد

بحسب “نموذج ASC لاكتشاف الهوايات” فإن الهوايات Hobbies عبارة عن سلة الأنشطة المفضلة للشخص، وهي في عمومها حسب النموذج، ذات أربعة أقسام تتصدرها “المعرفة” وما يتصل بها من أنشطة التعلم والتحصيل العلمي، بمختلف أدواته وقوالبه وإطاراته. إن ما نطمح إليه من نتائج جيدة وتغير كبير في أداء الطلاب، قد لا يكون بنفس سرعتنا في صياغة الأفكار وإعداد الخطط وتقديم البرامج، لكن المهم قطعا هو نجاحنا في إحداث مستوى من التغيير في مفاهيم المتعلمين، وإعادة رسم الصور الذهنية، في خطوة وصفناها بعملية إعادة “ضبط الإعدادات”. ولعل الاختراق المهم هنا أن يستقر في ذهن الطالب أن المعرفة نشاط مفضل ضمن سلة أنشطته وبرامجه المعتادة، وليست عبئا ثقيلا وجهدا لا يطاق. يقول الكاتب السوداني مجاهد احمد على أحيمر: “يعتمد بناء الإعدادات المعرفية الجيدة، على الإدخال المعرفي المنظم.. ليس في مرحلة التعلم بالقراءة (الاطلاع) والكتابة فحسب، بل قبل ذلك في مرحلة ملاحظة السلوك الإنساني. إن ملاحظة السلوك تؤثر في تكوين التصورات الذهنية بدرجة أكبر، حتى بعد مرحلة القراءة والكتابة”.

عمليا، عندما نطلب من الطلاب تحديد أبرز هواياتهم المعرفية، تتوارد إجاباتهم بسلاسة متسقة مع أعمارهم ومستوياتهم الذهنية، وتتكشف بشكل تلقائي، ميولاتهم الدراسية، ودرجات التفاوت في حبهم لما يتلقونه من مواد ومقررات. إن الكشف عن تفضيلات الطلاب قد يساعدنا في معالجة ما يواجهونه من صعوبات أكاديمية، أو ما يعانونه من صعوبات في التواصل مع مدرسي بعض المواد، فضلا عن توفير ما تتطلبه بعض الدراسات من أدوات، قد يكون توفرها سببا حاسما في ارتباط الطلاب بها وحبهم لها وتفوقهم في تعلمها.

قبل أن نلوم الأبناء والطلاب على انصرافهم عن التعلم والمعرفة، يجدر بنا أن نغرس في نفوسهم أن المعرفة نشاط مفضل وهواية ممتعة. إن النقلة الحاسمة في مسار التعلم، قد تكون فكرة أو مفهوما concept فعال يتبناه المتعلم ويقيم عليه بناءه المعرفي. والملاحظ أن غالب جهودنا في مجال (التعليم والتعلم) إنما تتركز على تكثيف الأنشطة من ناحية، أو التعويل على صور التعلم كإجراءات جوفاء فاقدة للروح والمضامين.

في رحلة التعلم عادة من نفتقر إلى أفكار كلية وتصورات ورؤى، قبل احتياجنا إلى أدوات التعلم، وخطوات التحصيل المعرفي. وبما أن التعلم في مجمله جهد ذهني مضن، وبطيء النتائج في ذات الوقت.. فإن توفير مبررات كافية يصبح من الأهمية بمكان، في ظل التنافس الشرس للاستحواذ على أوقات الطلاب على وجه الخصوص وجذب اهتماماتهم إلى ساحات أخرى أكثر بريقا وأوفر إثارة من ميادين التعلم.

في برامج اكتشاف الهوايات، يقف المدربون على مؤشرات هامة فيما يختص بقدرات المتدربين (الطلاب) واستعداداتهم الذهنية والنفسية.. وذلك من خلال التعرف على مختلف أنشطتهم الجارية، ومنها بطبيعة الحال (الأنشطة المعرفية) وما يتصل بالتعلم والتثقف والمعرفة. يميل الطلاب ذوو النشاط البدني والاجتماعي المحدود إلى أنشطة التعلم بشكل أكبر، بينما تقل مساحات التعلم لدى الأكثر نشاطا، لصالح الأنشطة البدنية والاجتماعية، هذا بصفة عامة وإن كان بعضهم أقدر على التوازن من سواه.

“لا يمكن للمرء أن يحصل على المعرفة إلا عندما يتعلم كيف يفكر”.

كونفوشيوس

من المهم أن نشجع الأكثر رغبة واستعدادا على المضي قدما، وأن نعمل على دعمهم وتزويدهم بما يعزز استعداداتهم تلك ويحفزها باستمرار.. وذلك من خلال المقترحات التالية:

– إن أول ما يحتاجه المتعلم الراغب في تميز معرفي ذي قيمة، أن نساعده في رسم صورة ذهنية جيدة لمشروعه المعرفي وما ينتج عنه من صفات معرفية محددة، ولا بأس من طرح ذلك في شكل سؤال كبير تمثل الإجابة عنه ملخصا للصفات المراد الوصول إليها وتمثل في ذات الوقت “طموحات معرفية” للمتعلم.

– يتطلب تحقيق طموحاتنا المعرفية وجودنا في “ميدان ما” أو مجال مهني محدد تتراكم فيه معرفتنا النظرية والتطبيقية باضطراد، حتى نبلغ مستوى يؤهلنا للمساهمة في حل مشكلاته أو تطوير أدواته وتقنياته. ويمثل مجالك المهني ساحة لتعزيز التعلم وميدان للإسهام المعرفي في ذات الوقت.

– إن اختيارنا للمسارات الدراسية ليس سوى اختيار مهني، وإن كان أوليا وغير حاسم في كثير من الأحوال.. ومما يجدر بالطالب وهو في مراحل دراسية وعمرية مبكرة، أن يعمل على اكتشاف ميولاته وهواياته بشكل مستمر؛ ليمهد لنفسه ويساعدها عند الاختيارات الدراسية والمهنية الحاسمة.

إن طريقنا نحو “التعلم بإعدادات جديدة” عادة ما يبدأ عند اكتشافنا لقدراتنا واستعداداتنا وما يتصل بها من أنشطة وهوايات، مرورا بالاختيارات الدراسية والمهنية المرتبطة بميولاتنا واستعداداتنا.. ومن ثم بوجودنا في مجالات مهنية متصالحة مع شخصياتنا، وأخيرا بمدى قدرتنا على الانتقال من صورة المهني التقني أو مجرد الممارس لمهنة ما، إلى خانة المهني الباحث المساهم في تعزيز المعرفة في مجاله، وتقديم حلول لمشكلات المجال وتطوير أساليب العمل.