تمكن الصحابة رضوان الله عليهم من ضبط السنة تبعا لبعض مؤهلات توفرت لديهم يفتقدها أغلب الناس اليوم، فكان حفظهم السنة النبوية وعنايتهم بها نوعا فريدا، واستطاعوا بهذه الإمكانية الهائلة رواية السنة النبوية ونشرها في أصقاع البلاد والمدن الإسلامية، وأقبل عليهم طلبة العلم والحديث ينهلون علم السنة من أيدي الصحابة رضوان الله عليهم، وهذا التمكن يرجع إلى مجموعة من الأسباب يمكن اختصارها في مؤهلات روحيّة ومؤهلات فطريّة[1] ومن ذلك:

أولا: الإيمان الكامل بالنبي عليه الصلاة والسلام

قد أصغى الصحابة آذانهم إلى صوت الصادق الأمين وهو واقف على رأس الصفا تاليا قوله تعالى: }قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون{ (الأعراف. الآية: 158). فأجابوا النداء واتبعوا المحجة البيضاء حتى صاروا هداة مهتدين.

ثم إن القرآن الكريم نفخ نشوة محبة النبي صلى الله عليه وسلم في نفوسهم وتنوعت أساليبه في بيان منزلة هذا الرسول بين الأمة:

  • أخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يحدث به ليس من تلقاء نفسه، كما استبعد أن يكون حديثه يمجرد هوى  {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم الآية: 5)
  • وأوجب طاعته عليه الصلاة والسلام في أكثر من موضع كما في قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (النور الآية: 54)

       {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (النساء الآية:80).

     {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (محمد الآية: 33).

  • وحث على الاقتداء بسنته عليه الصلاة والسلام ومن ذلك قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا }  (الأحزاب الآية: 21).
  • ورتب العقاب على مخالفته عليه الصلاة والسلام وقال تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء الآية: 115).

{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور الآية: 63).

     ومن خلال هذه الأساليب حرك القرآن قوى الصحابة المعنوية وهز مشاعرهم فأحسوا يقينا مهمة الرسول عليه الصلاة والسلام، وأيقنوا أن السعادة والفوز والمجد والشرف والنجاة في اتباع سنته، وكانوا يلتزمون أوامره ويقفون عند حدود نواهيه حتى كانت مقولتهم الشهيرة ” يا رسول الله بأبي أنت وأمي” دلالة واضحة على مدى رسوخ إيمانهم بهذا النبي صلى الله عليه وسلم، ومن حالهم هذه في المحبة والاتباع كما أمرهم الله عز وجل ولا شك أن اعتناءهم بحفظ سنته وآثاره عليه الصلاة والسلام ستكون في القيمة العلية.

ثانيا: الحرص على السماع من النبي صلى الله عليه وسلم.

بلغ الحرص الشديد من الصحابة على النقل المباشر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى وجد منهم من هاجر الأهل والأوطان آثرين الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، كما هو حال أهل الصفة الذين ينامون في المسجد ويظلون فيه، وصوّر أبو هريرة رضي الله عنه شيئا من حالهم بقوله:” رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء، وإنما عليه إما إزار وإما كساء ربطوه في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته”[2].

وكان صلى الله عليه وسلّم إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أشركهم فيها[3].

وكان سعد بن عبادة رضي الله عنه يرجع كل ليلة إلى أهله بثمانين منهم يعشيهم[4]. وهؤلاء القوم كابدوا ضيق العيش لأجل أن يعيشوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويجعلوه محور حياتهم كلها.

وربما كان بعض الصحابة يشغله كسب المعيشة فيضطر إلى أن يتفق مع صحابي آخر على التناوب في مجلس النبي صلي الله عليه وسلم، فيحدث كل واحد منهما ما فات الآخر حتى لا يفوت أحدهما شيء من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى هذا سار عمر مع جاره الأنصاري.[5]

بل وجدت بعض القبائل النائية تبعث بعثات إلى المدينة ليتلقوا عنه صلى الله عليه وآله وسلم هديه وسمته وشمائله أجمع، وهذا مالك بن الحويرث، ووائل بن حجر أتوا في وفد من قومهم إلى المدينة، وكلاهما من أشهر من روى صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ولأجل الضبط الكامل عن الرسول صلى الله عليه وسلم كان من شأنهم توقيره وتوقير مجلسه فلم يكن من عادتهم حال جلوسهم واستماعهم للنبي صلى الله عليه وسلم أن يعلوا أصواتهم وإنما “إذا تكلم- صلى الله عليه وسلم – خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون النظر إليه تعظيمًا له[6]  وكأن على رؤوسهم الطير.[7]

عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال:” كنا إذا قعدنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لم نرفع رؤوسنا إليه إعظاما له.”[8]

وتقرر أن حسن الاستماع يعين على سهولة الفهم والإدراك، وفي الحكمة ( أعطِ العلم كلك يُعطِك بعضه) وبهذا الأدب الرفيع في مجلس السماع والإقبال الكلي على العلم، فتح الله أسماعهم وعقولهم وقلوبهم حتى حصل لهم حسن الحفظ وتمام الضبط عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثالثا: مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما أشكل عليهم.

لم يكن الصحابة يسكتون عن استنطاق النبي صلى الله عليه وسلم واسترشاده فيما لم يبلغ علمهم وفهمهم من أمور الدين، ويقول أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إنا بأرض أهل الكتاب، فنأكل في آنيتهم، وبأرض صيد، أصيد بقوسي، وأصيد بكلبي المعلم وبكلبي الذي ليس بمعلم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” أما ما ذكرت أنك بأرض أهل كتاب: فلا تأكلوا في آنيتهم إلا أن لا تجدوا بدا، فإن لم تجدوا بدا فاغسلوها وكلوا، وأما ما ذكرت أنكم بأرض صيد: فما صدت بقوسك فاذكر اسم الله وكل، وما صدت بكلبك المعلم فاذكر اسم الله وكل، وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكله .[9]

وجاءرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته»[10] والأمثلة في هذا الباب كثيرة جدا.

وليس هذا إلا دليلا على مسلك من مسالك تمام حفظهم للحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والتفقه عنه.

رابعا: طبيعة حفظ الصحابة رضوان الله عليهم.

امتازت العرب قديما بمزية الحفظ ودقته إلى حد يستدعي الدهشة والإعجاب، وهم “أمة أمية قليلي العناية بالكتابة التي هي أداة من أدوات الحضارة، استعاضوا عنها لاستيفاء أخبارهم وتداولها بقوة الحفظ، فمرنوا على هذه القوة حتى صارت لكثير منهم ملكة لا يحتاج صاحبها إلى تكلف عناء في حفظ ما يرد على سمعه من الأخبار والأشعار، فقامت عندهم مقام الكتابة وقيد الأخبار بالصحف؛ لذلك كانت أخبار العرب وأشعارهم التي وصلت إلينا إلى هذا اليوم، إنما اتصلت بالمسلمين بالرواية؛ ثم قيدها هؤلاء بالكتب في العصر الأول وما بعده.”[11]

فكون العرب يتمتعون بهذه الفطرة – ملكة الحفظ – ثم عُرض عليهم حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم, لا شك أنه سينشأ بينهم نشوة لذيذة الغذاء العلمي بوجه أكمل، والانكباب على آثاره عليه أفضل الصلاة والسلام, وهذا الذي حصل فعلا فيما بعد.


[1] – للمزيد ينصح باستماع محاضرة الدكتور الشريف حاتم بعنوان:” تاريخ نشوء مصنفات السنة”.

[2] رواه البخاري (442).

 [3]المصدر السابق. (6452).

[4] ينظر تهذيب الكمال. 10/280

[5] ينظر القصة في صحيح البخاري (89).

[6]منهاج السنة النبوية. 8/278

[7] رواه البخاري (2842).

[8]شعب الإيمان. 1/199

[9] رواه البخاري (5478).

[10] رواه الترمذي (69). وقال: حديث حسن صحيح.

[11] مجلة المنار، المقال بعنوان: التدوين في الإسلام لمحمد رضا. 10/743.