لعل من أهم ما أثارته أزمة “كورونا” من أفكار، وما جددته من خواطر؛ ما يتعلق بفكرة الموت.. ذلك المصير الذي كلنا صائرون إليه، أيًّا كان إيماننا بحقيقته: هل هو بداية لمرحلة أخرى، أم نهاية لرحلة الحياة؟ وأيًّا كان استعدادنا له؟

إن الموت هو الحقيقة التي لا شك فيها، وهو أيضًا اليقين الذي يشبه الشك! كما قال عمر بن عبد العزيز: ما رأيت يقينًا أشبه بالشك من يقين الناس بالموت ثم لا يستعدون له. يعنى كأنهم فيه شاكّون (تفسير القرطبي).

والحضارة المعاصرة تبدو متخاصمة مع الموت! ولم لا؟! وقد تخاصمت من قبل مع الله! وزعم بعضهم أن الإله قد مات، فلا خوف- إذن- من حساب ولا عقاب!

حتى الذين يؤمنون بالموت، ويعتقدون بما بعده من جنة ونار، لا يبدو الكثيرون منهم آخذين الأمر علي محمل الجد، بعد أن انغمسوا في الحياة إلي أذقانهم، وانخرطوا في دوامة الحياة؛ يلهثون وراء ملذاتها، وينشغلون ببريقها!

إن الحياة المعاصرة بعد أن أحرزت من التقدم العلمي ما أحرزت، وتفنّنت في وسائل الترفيه والإغواء ما تفننت؛ لم تدع للإنسان لحظةً يتأمل فيها بصدقٍ ووضوحٍ هذه الحياةَ التي يحياها، ولا ذلك المصيرَ الذي ينتظره! وكأني بهذا الإنسان كلما أراد ان يتوقف برهة ليتأمل ويتفكر، تأتيه الشواغل من كل جانب، وتُلهيه المغريات من كل لون.. فإذا به يعود إلى ما كان عليه، ويتيه في الأمواج من جديد، وينسي ما كان ينتويه!

لكن أزمة “كورونا” قد جاءت، وعلى حين غفلة، لتذكّر الإنسان بما قد نساه، أو يحاول أن يتناساه؛ ولتضعه تحت وطأة الشعور بالموت كل لحظة، وما أثقله من شعور!

لقد بات الناس في وجل من أن يداهمهم هذا الموت، بما لا يستطيعون له دفعًا، ولا يملكون له زادًا.. وصاروا يرقبون شاشات الفضائيات الراصدة لحالات الإصابات والوفيات، وهم يتساءلون: متي يأتي الدور علينا؟ وفي أي خانة سنكون؟

توقفت الحياة، وسكنت الشوارع والأسواق، وتسمّرت الأسر أمام الشاشات، وانعزل الجميع طوعًا أو كرهًا.. ولم يتجول بحرية في المدن إلا الموت!

حضارة السرعة والحرية والدوران والتسوق والتنزه والترحال، بدت ساكنة جامدة خاشعة تحت سيف الموت المُصْلَت على رقبتها!

لطالما نادى كثيرون بأن نسيان الحضارة المعاصرةِ ربَّها، وإنكارها الموت، سببٌ أساسٌ في طغيانها وتمردها؛ فلم يسمع أحد..! وذلك حق لا ريب، فلا يُصلح الإنسانَ- والحضارة- مثل الإيمان بالله، والاعتقاد في الحياة والجزاء بعد الموت: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ} (العلق: ٦- ٨). وكان الربيع بن خثيم يقول: لو فارق ذِكرُ الموت قلبي ساعة، لفَسَد.

لكن الدرس الذي تُعلمنا إياه أزمة “كورونا” أن تذكُّرَ الموت مثل الملح! قليلٌ منه يُصلح الطعام، وكثيره يفسده!

فالوقوع تحت ضغط فكرة الموت، واستحضاره الدائم بنوع من القلق والاضطراب؛ هو مما يفسد الحياة، ويكبِّل الإنسان، ويشلّ فاعليته وطاقاته.. أما تذكر الموتِ بما يدفع للاستعداد له، والتهيؤ لما بعده؛ فإنه يصلح الحياة، ويوجّه حركة الإنسان توجيهًا صحيحًا، ويرشّد خطواته نحو الغاية التي خُلق لها..

إن تذكر الموت على هذا النحو، كفيلٌ بأن يمنع المرء من ظلم الآخرين، ومن التعدي علي حقوقهم.. وجديرٌ بأن يحجز الإنسان عن أن يمشي في الأرض مختالاً فخورًا كأنما الخلود من قَدَره، لا يعجزه شيء!

إن الموت يذكّر الإنسان بضعفه، وينبّهه إلي حقيقةِ أنه زائل عن أملاكه إن لم تزل هي عنه!

وإذا كان الأمر كذلك، فإن العدل والخير ينبغي أن يكونا عنوانًا على حركة الإنسان في الحياة، وعلى سلوكه تجاه نفسه وتجاه الآخرين.. أما علاقته بمن بيده الموت والحياة، سبحانه، فينبغي أن تؤسس على الإيمان والطاعة.. فذلك حقًّا ما يخفف من وطأة الموت علي الإنسان، بعد أن استعد له، وأدرك أنه مجرد محطة بين رحلتين!

ولعل مما يخفف من وطأة الشعور بالموت أيضًا، ما يمكن أن نلاحظه من أن فلسفة الإسلام تقوم على أن المسلم خُلق ليحيا، لا ليموت.. وأن “الحياة” تبدو أصلاً، والموت أمرٌ عارض عابر..!

نعم، خُلق المسلم ليحيا

ليحيا حياةً طيبة في الدنيا: يعمِّر الأرض، ويستمتع بالطيبات، ويكوّن الأسرة وينجب الذرية، ويمشي بين الناس بالنور الذي منحه الله إياها: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: ٩٧).

وحياةً طيبة في القبر: بعد أن يجتاز بيسرٍ اختبار المَلَكين؛ حيث: “يُنادي منادٍ من السَّماءِ: أن قد صدق عبدي فأفرِشوه من الجنَّةِ، وافتَحوا له بابًا إلى الجنَّةِ. قال: فيأتيه من رَوْحِها وطِيبِها، ويُفسَحُ له في قبرِه مدَّ بصرِه”. ثم يدعو العبد المؤمن بتعجيل قيام الساعة قائلاً: “ربِّ أقِمِ السَّاعةَ، ربِّ أقِمِ السَّاعةَ، حتَّى أرجِعَ إلى أهلي ومالي” (الترغيب والترهيب، من حديث البراء بن عازب).

وحياة طيبة في الاخرة: فلا موت ولا شقاء ولا فناء؛ وإنما نعيم مقيم، وألوان من الراحة والتنعم لا نعرف عنها الآن إلا الأسماء، وتبقى حقيقتها مما ادخره الله لعباده بفضله ومنّه وعطائه: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} (ق: ٣٤، ٣٥).

أمام هذا التصور المميز الذي نستخلصه من توجيهات الإسلام، لا غرابة إذ نقول: إن المسلم خُلق ليحيا، وأن الموت ليس إلا لحظة عابرة تنقل المسلم من حياة إلى حياة.. بل ندرك كم يكون غبن الإنسان الذي يستبدل بذلك كله نعيمًا زائلاً، وحياةً فانية..!

ما أكثر الدروس التي تذكّرنا بها أزمة “كورونا”.. وجدلية الموت والحياة، بأبعادها المتعددة، هي مما يجب تذكره ومراجعته في ضوء هذه الأزمة..