إن اختيار الخطاب القرآني للعقل غاية ووسيلة في آن واحد، ينبع من طبيعته الإعجازية أصلاً.. فبينما اعتمدت باقي معجزات الرسل على (إعجاز) الحس والعقل، بأفعال خارقة للقوانين الطبيعية المادية، فإن إعجاز القرآن على العكس من ذلك يعتمد على إيقاظ العقل والنهوض به.

المعجزات الحسية السابقة- لو تتبعنا كلاًّ منها على حدة – تعتمد على خرق، واضح للعيان لظاهرة مادية تقليدية، يتبعها اعتراف من الشهود بعجزهم العقلي عن فهم أو متابعة هذا الخرق، يستلزم هذا العجز التسليم والانقياد التام من قبل الشهود لصاحب المعجزة، وبالتالي التصديق بقضيته الأساسية: التوحيد وطاعة الرسول غالباً.

هذه الثلاثية المتلازمة (التحدي – الإعجاز – والتسليم) تسلك طريقاً آخر مع المعجزة القرآنية، فإذا كانت هذه المتلازمة في المعجزات السابقة اعتمدت وبشكل أساسي على إعجاز العقل – أي إعلانه العجز والهزيمة، ورفعه الراية البيضاء – عبر الانقياد، فإن أي مظهر أو أثر لمحاولة (إعجاز العقل) عبر المعجزة القرآنية غير موجودة على الإطلاق.

وعلى العكس من ذلك فإن آلية (الإبطال) القرآنية لمعتقدات وتقاليد وقوانين الجاهلية، كانت تعتمد أساساً وبشكل كبير على استنهاض قيم وطرق تفكير مضادة، قوامها استنهاض العقل بدلاً من محاولة هزيمته، وإعلان قيامته بدلاً من إعلان عجزه .

كان هذا هو محور الخطاب القرآني في إعجازه، أن يقوم العقل من سباته، ليكون الحكم في قضية قديمة تعددت فيها الأقوال والأحكام والأساليب. وأن يعلن ثورته على (اللا عقل) السائد بكل مظاهره المتعددة، ابتداءً من الشرك إلى مظاهر الاستغلال والقهر الاجتماعيين.

وكان هذا النوع من الإعجاز الذي اتخذ شكل الجدل حصراً على الأقل في الثلاث عشرة سنة الأولى من البعثة، مؤلماً وخارقاً للغاية لمعانديه، حتى إنهم -وقد أعياهم الجدل وأعجزهم العقل- طالبوا بالنوع التقليدي من المعجزات الحسية المعتمدة أساساً على إعجاز العقل لا قيامته، وكان هذا النوع من المعجزات يناسب لغتهم وطريقتهم في التفكير، لأنهم كانوا سيجدون حتماً طريقة للالتفاف على هذا النوع من الإعجاز – كما وجدت الأمم السابقة في التجارب النبوية السابقة(حدث هذا ضمناً مع انشقاق القمر ،ولم تؤد إلى تغير في موقف مشركي مكة، بل لم يرد أي خبر يفيد بانتقال مشرك واحد إلى الإيمان بسبب هذه المعجزة.فكان انشقاق القمر بمثابة البرهان الإضافي على طبيعة معجزة القرآن وتفردها.)

لذلك ظلت المعجزة القرآنية فريدة ونادرة في الإصرار على مخاطبة العقل – والعقل وحده – في عملية التغيير التي هي هدف كل دين وكل رسالة وكل دعوة.

ولعل هذا الإصرار على ما هو جوهري لا في طريقة التبليغ فحسب، بل في طبيعة الرسالة ذاتها كان عاملاً مهماً وأساسياً بل وحاسماً في كون الإسلام هو الرسالة الخاتمة للرسالات السماوية السابقة. فالطابع الحسي لمعجزات الرسالات السابقة دمغ هذه الرسالات بطابع حسي، يتناسب مع لغة اللاعقل التي كانت سائدة، والتي استطاعت المعجزة الحسية اختراقها والتفاهم معها، لكن الرسالة الخاتمة يجب أن تتميز عن ذلك، بتقديم لغة حية تصلح مقدماتها ونتائجها لكل العصور، لا تصلح فقط لكل العصور، بل تُصلِح كل العصور.

وكان هذا سراً آخر من جوانب إعجاز الخطاب القرآني..

كان ولا يزال، لولا…..

وقبل أن نسترسل أكثر في الثناء والتمجيد والاعتزاز بهذه الحقيقة الساطعة، يجب أن نتذكر أن رياح التاريخ لم تسر دوماً باتجاهات السفن القرآنية، فالخطاب القرآني تم تأويل بعض جوانبه – عبر قرون الانحدار، ومن ثم الانحطاط – بالضبط إلى الصف المضاد للقيم التي استنهضها القرآن الكريم. وسادت تأويلات وتفسيرات لبعض آيات القرآن الكريم تحارب العقل ولغته والقيم العقلانية التي كانت أساس الإعجاز القرآني.. هذا بالإضافة إلى أن عدم الفهم الحقيقي للطبيعة العقلانية لمعجزة الإسلام الخالدة الأولى (القرآن) قاد الفكر الإسلامي إلى ارتكاب أخطاء بحق هذه المعجزة، وذلك بالنظر إلى حوادث حسية منسوبة إليه عليه أفضل الصلاة والسلام، باعتبارها معجزات أخرى إلى جانب معجزته الأولى؛ القرآن .

تمتلئ كتب السيرة والحديث عموماً بمفاهيم من هذا النوع. وإطلاق لفظ المعجزة عليها هو تجاوز على معنى المعجزة أصلاً، وعلى المعجزة القرآنية أساساً. فهذه الحوادث لا ينطبق عليها تعريف المعجزة باعتبارها فعلاً خارقاً للعادة يستهدف تحدي الآخر، لهدف جلب إيمانهه، بينما جرت معظم هذه (الحوادث) ضمن مجتمع المدينة المؤمن، ودون أن يعرف معظم حضور المشهد حدوث حدث خارق أصلاً – كما في حوادث معينة مثل نبع الماء من بين يديه عليه أفضل الصلاة والسلام، إلى أن توضّأ ما بين الستين والثمانين نفراً وغيرها من الحوادث المشابهة التي ثبتت صحتها ومن الواضح طبعاً في هذه الحالة وسواها غياب طابع التحدي والإعجاز تماماً، مما ينفي عنها تعريف المعجزة جملةً وتفصيلاً ولا ينفي حدوثها مطلقا.. لكن سيادة لغة ومفاهيم (اللاعقل) بالتدريج على الفكر الإسلامي جعل من الضروري تبني تعريف المعجزات الحسية – حتى لو كانت مبنية على حوادث حقيقية من أجل تزييف التنسيق بين الطابع اللاعقلاني الحسي الذي غزا الفكر الإسلامي وبين شخصية الرسول (صلى الله عليه وسلم)وطبيعة الدعوة – خاصة في ظل وضوح التناقض بين الطابع العقلاني للخطاب القرآني، والاتجاه الذي ساد الفكر الإسلامي هادفاً إلى تغييب العقل وإقالته أو إحالته على التقاعد المبكر.

وفي الحقيقة لم يكن تبني المعجزات الحسية هو الوسيلة الوحيدة التي انتهجها (فكر اللاعقل) الذي سيطر على الفكر الإسلامي، فقد كون هذا الفكر ثقافة لا عقلانية كاملة بمفرداتها وتأثيراتها كافة ، الاجتماعية والسياسية. إنه هو الفكر الذي أودى بالحضارة الإسلامية في درك الانحطاط شيئاً فشيئاً، والذي لا يزال يمارس تأثيراته على الفكر الإسلامي، وعلى مئات الملايين من المسلمين الذين ازدردوا عناصر هذا الفكر، وتربوا عليه باعتباره يمثل دينهم الحقيقي.