اختار المقال التركيز على كتاب “زاد المعاد في هدي خير العباد” لابن قيم الجوزية في بيان اختيارات المؤلف الفقهية في الهدي النبوي الخاص بمناسك الحج. وكتاب الزاد لأنه من أنبل المؤلفات الخاصة بسيرة النبي ﷺ وبيان هديه وخصاله، وتميز الكتاب بين المصنفات المختلفة في مجال السيرة أنه أقدم كتاب جمع بين السيرة النبوية والهدي المستخرج من مواقف حياة النبي ﷺ، فهو يمثل ما يطلق عليه اليوم بفقه السيرة النبوية.
ولولا كتاب الشفا في حقوق المصطفى للقاضي عياض، وجزء حجة الوداع لابن حزم، اللذان سبق عهدهما في التصنيف كتاب الزاد، لقيل إن زاد المعاد أقدم وأول مصنف في فن فقه السيرة النبوية، فقد تميز في جانب التبويب والتقسيم، وتألق في مجال جودة تحرير المسائل والآراء والمذاهب، ولم تقف خصائص الكتاب في المنهجية، ولكنه تفوق كذلك في قراءة المسائل وعرض الأحداث والمقارنة بين المرويات، ومناقشة الأحكام الفقهية المرتبطة بالسيرة تحت ما سماه بالهدي النبوي، وكان المؤلف ابن القيم مسهبا طويل النفس مع عذوبة اللسان وسهولة العبارة .
لهذا السبب أشاد العلماء بهذا الجهد الفذ، قال ابن رجب: وَهُوَ كتاب عظيم جدا[1].
وقال السخاوي: كتاب لا نظير له[2].
وأما الدكتور أحمد المزيد فقد قرظ الكتاب بعد قيامه بتهذيب أصله، وتقريب محتواه لتسهل قراءة الكتاب وتداوله بين الناس، فقال: “اشتمل الكتاب على فوائد ونكت ولطائف لا يخلو منها باب ولا فصل، فضلا عن ترجيحاته واختياراته وتلمسه لحكم الشريعة وعلل أحكامها”[3].
ولما كانت أيام موسم الحج يملؤها الأعمال والعبادات والمناسك الخاصة، وكان من أهمها الحج فهو عبادة موسمية ياتي مرة في العام، كان الجدير الوقوف عند بعض المعاني والفوائد العلمية التي توضح هذا العمل الفاضل وما يرافقه من مناسك وأعمال، ونتناول في هذا المقام بعض مسائل فقهية مما يقع السؤال عليه كثيرا، ولا يسع المسلم جهله، وركزت في هذا المقال على اختيارات ابن القيم الخاصة بـأعمال الحج من خلال السنن والهدي النبوي.
من أبرز هذه المسائل ما يأتي:
أ – العمرة من الميقات حال الدخول إلى مكة، فقد رجح ابن القيم أن النبي ﷺ في جميع عُمَره كان داخلا إلى مكة، فأطلق على ذلك “عمرة الداخل إلى مكة”، فكان عليه الصلاة والسلام يحرم بعمرته من الميقات ويدخل بها إلى مكة، ولم يكن يخرج إلى أدنى الحل، أو مسجد التنعيم ليعتمر، يقول: “لو يفعل هذا على عهده أحد قط إلا عائشة وحدها بين سائر من كان معه، لأنها كانت قد أهلت بالعمرة فحاضت، فأمرها. كما أنه لم يكن يخرج من مكة إلى أي ميقات بسبب الإحرام.
وحسب ابن القيم فإن الرسول ﷺ قصد مكة بعد الهجرة خمس مرات، ودخل مكة في جميعها ما عدا المرة الأولى التي وصل فيها إلى الحديبية، وصد عن الدخول إلى مكة. وقد أحرم في أربع منهن من الميقات لا قبله.
2- تأخرت مشروعية الحج إلى سنة تسع أو عشر من الهجرة النبوية وبعث الرسول أبابكر الصديق يؤذن للناس بالحج في مكة في مواسم الحج.
3 – لم تثبت صلاة خاصة للإحرام، فإن الرسول ﷺ حين أحرم اغتسل وتطيب في بدنه ورأسه حتى يرى وبيص المسك في مفارقه ولحيته ، ثم صلى الظهر ركعتين ولم ينقل أنه صلى للإحرام ، ثم أحرم بالحج والعمرة من مصلاه.
4- أحرم الرسول ﷺ قارنا، فأهل بالحج والعمرة معا وتلبس بعمل واحد، وساق الهدي وهو أمثل لقوله تعالى (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [البقرة: 196]، واختاره ابن القيم للأحاديث الثابتة التي يصل عددها إلى بضعة وعشرين حديثا. فقد ثبت عن أبي قتادة أن الرسول جمع بين الحج والعمرة لأنه علم أنه لا يحج بعدها.
ثم رد على من يقول إن الرسول ﷺ حج مفردا بمعنى أنه أتى بالحج مفردا ثم فرغ منه، وأتى بالعمرة من التنعيم أو غيره، قال: “هذا غلط لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا الأئمة الأربعة ..
ثم قال: وإن أراد به أنه حج حجا مفردا لم يعتمر معه فوهم كذلك والأحاديث الصحيحة الصريحة ترده.
وإن أراد أنه اقتصر على أعمال الحج وحده ولم يفرد للعمرة أعمالا فقد أصاب”.
5 – أحرم الرسول ﷺ لحجه بالقران، فقد أهل بالحج والعمرة معا من حين أنشأ الإحرام، ولم يحل حتى حل منهما جميعا، فطاف لهما طوافا واحدا، وسعى لهما سعيا واحدا، وساق الهدي.
6 – توجيه عمرة التنعيم التي أتت بها عائشة رضي الله عنها بعد انقضاء أعمال الحج، فإن المسألة أثارت مجموعة من الأسئلة الفقهية منها:
– هل كانت عائشة متمتعة أم مفردة؟
– فإذا كانت متمتعة فهل رفضت عمرتها أو انتقلت إلى الإفراد، وأدخلت عليها الحج وصارت مقارنة؟
– وهل العمرة التي أتت بها من التنعيم كانت واجبة أم لا؟
واختار ابن القيم بناء على الأحاديث التي أوردت قصة عائشة (أنها كانت قارنة وكان يكفيها طواف واحد وسعي واحد، وأنها لم ترفض إحرام العمرة، بل بقيت في إحرامها كما هي لم تحل منه).
قال الإمام أحمد: إنما أعمر النبي ﷺ عائشة حين ألحت عليه، فقالت: يرجع الناس بنسكين، وأرجع بنسك؟
وأكد على ما سبق في منع العمرة المكية والاستدلال بهذه القصة، قال: “لا تعد قصة عمرة عائشة أصلا في العمرة المكية، ولا دلالة في ذلك، فإن عمرتها
– إما أن تكون قضاء للعمرة المرفوضة عند من يقول: إنها رفضتها، فهي واجبة قضاء لها
– أو أن تكون زيادة محضة وتطييبا لقلبها عند من يقول إنها كانت قارنة. “
7 – جواز أكل المحرم من صيد الحلال إذا لم يصده لأجله لأنه ﷺ قال حين رأى حمار وحش عقيرا قال: (دعوه فإنه يوشك أن يأتي صاحبه)، ووصاحب الحمار أطعم النبي والصحابة ولم يكن محرما، ولم يصده لهم.
8 – جواز إدخال العمرة على الحج عند الإحرام به، وذلك حين أمر النبي ﷺ أصحابه وكانوا مهلين بالحج في الأصل، أن يجعلوا إحرامهم بالحج عمرة، إلا من كان معه الهدي.
وشدد ابن القيم أن هذا الفسخ جائز وباق إلى يوم القيامة غير خاص بالصحابة، ولا هو قابل للنسخ والتبديل. ووافق ما قال اختيار الإمام أحمد.
9 – ثبت عن النبي ﷺ أنه كلما حاذى الحجر الأسود في طوافه أشار إليه أو استلمه بمحجنه، وقبَّل المحجن (وهو عصا محنية الرأس)، وثبت عنه كذلك أنه استلم الركن اليماني، ولم يثبت عنه أنه قبله، ولا قبل يده عند استلامه.
يصدق في جميع اختيارات ابن القيم في جزء مناسك الحج من كتابه زاد المعاد أنه أحكم النصوص الشرعية، ثم القواعد الشرعية واللغوية، وحاول أن يتثبت من جميع النصوص التي وظفها والآراء الفقهية التي ساقها وناقشها.
[1] ذيل طبقات الحنابلة: 5/175
[2] الجواهر والدرر: 3/1254
[3] مختصر زاد المعاد: 13