مازال الغرب إشكالا كبيرا يحتاج إلى فهم، فهو ليس مكانا جغرافيا يمكن أن تعطيه ظهرك؛ ولكنه ثقافة ونمط حياة، وتاريخ مازالت آثاره باقية، وإكراهات سياسية، ومصالح اقتصادية، ونموذج حضاري مازال يحتفظ ببريق من عدة قرون، والغرب يحتاج إلى رؤية لفهمه قائمة على أسس علمية، بعيدا عن ضغط الأيديولوجيا، ومآسي الخبرة الاستعمارية المريرة، فسؤال الغرب: تعريفا، وفهما وتعاملا، معضلة صعبة ومعقده وليست يسيرة، وإذا كان السؤال هو ما نأخذ وما نترك، فإن الغرب أُخذ عنه كل شيء، وبات متجسدا في نخب كثيرة تبتعد جغرافيا عن أراضيه، لكن قلوبها وعقولها تهفو إليه، وفي هذا الإطار جاء صدور المجلد الأول من كتاب “حوارات في علم الاستغراب“، الصادر عن المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، في 336 صفحة، في طبعته الأولى عام 2020، متضمنا لحوارات مع نخبة من مثقفي العالم الإسلامي، حول ماهية الغرب، وطبيعة ومنهج علم الاستغراب؛ ذلك العلم الناشيء لدراسة الغرب، ومنهج ذلك العلم مرتبط بشكل كبير بتعريف الغرب ذاته، فالغرب أصبح في داخلنا بأكثر مما نتصور، حتى لم نعد نرى وجودنا إلا في مرآته، ودراسة الغرب مهمة ولكن بطريقة لا تُعلي من صورته الواقعية، ولا تقلل منها، والاستغراب لا يُراد لمجرد المواجهة، بل يُراد لفهم الغرب والاستفادة منه في نقاط قوته ونبوغه.

ما هو الغرب؟ سؤال مركزي طرحته الحوارات على عشرات المفكرين والباحثين، وتنوعت إجاباتهم لتعريفه، لكنهم اتفقوا جميعا، أن الغرب ليس كتلة واحدة، لكنه غرب متنوع، ومن الصعب الإمساك بلحظة تاريخية فاصلة لبدايته، إذ يمتد تاريخ الغرب أكثر من (3500) عام، ولكل مرحلة من تاريخه ما يميزها في بناء مفهوم الغرب، وكذلك في إدراكنا لذلك الغرب، فهناك الغرب التاريخي، والغرب الجغرافي، والغرب الاستعماري، والغرب في عصر النهضة، والغرب كنموذج حضاري، فالغرب تعددي في السياسة، وتعددي-كذلك- في المواقف والأفكار والمذاهب والفنون والفلسفات، كما أنه ليس ظاهرة صماء، ولكنه ظاهرة إنسانية تتغير، وهو روح تنفث في أجساد كثيرة فتحولها إلى غربية، فكثير من الشرقيين غربيون في الحقيقة.

ورأى البعض أن الغرب لو لم يحقق تقدمه ونهضته وتحديثه منذ القرن الثامن عشر لما كان لمصطلح الغرب أية دلالة باستثناء الموقع الجغرافي والموارد، فالجغرافية اكتسبت أهميتها من التقدم، ثم من الهيمنة التي مارسها الغرب منذ مطلع القرن التاسع عشر، ومساحة الهيمنة التي مارسها الغرب لم تقتصر على الجغرافيا ولكن تعدتها للعقول والأفكار القلوب والهويات، ورغم أن تاريخ الغرب تبلور مع اليونان، لكن الغرب الحديث أنتج حضارة مادية جاءت بالحلول الجاهزة لكثير من المشكلات.

والحقيقة أن تاريخ الغرب، الذي يشكل تحديا وتهديدا لباقي الشعوب والأمم، بدأ مع مع عصر النهضة الأوروبية، أو عصر الأنوار، أي عندما قطع الأوروبيون علاقتهم بالخالق سبحانه وتعالى، ووضعوا العقل في مقام الألوهية، واعتقدوا أن الغرب هو صانع تاريخ الإنسانية بما يملكه من تقدم علمي وتقني، ووضعوا المجتمع كبديل عن المرجعية الدينية.

فما يقبله المجتمع هو الصحيح، كذلك أخذ الغرب يضع العلم مكان الدين كرؤية تُقدم نظرةً متماسكة للكون والوجود الإنساني، فجلس العلم مكان اللاهوت، وأصبح ينهض بمهامه ووظائفه، والغرب الحالي ولد مع موت الكنيسة، وفتح باب التنوير، فهو ابن عصر الأنوار، وهو غرب أرضي بالكامل، وعلماني، وبلا تصورات كونية شاملة نابعة من المقدس الديني.

والحضارة الغربية قامت على أرضية النفي لكل ما هو مخالف، كما أنها عقليتها تُوَلد منطق الإقصاء، فهي حضارة نابذة، والأسس المعرفية التي قامت عليها ترى في ذاتها اكتمالا للتطور الحضاري، والغرب في حضارته يريد أن يستوعب الحضارات الأخرى، ويعيد تأويلها وتأهيلها لتندمج في منظوره للعالم.

ماهية علم الاستغراب

إذا كان تعريف الغرب إشكالا، فكذلك تعريف علم الاستغراب، فهل هو علم يهتم ببناء معرفة عن الغرب؟ أم هو نوع من الاستشراق المضاد منهجا ومسلكا؟ أم أنه معرفة انفعالية عن الغرب لخدمة غايات أيديولوجية؟

يرى البعض أن الغاية من علم الاستغراب، هي التخلص من الانبهار بالغرب، والانطلاق إلى نقده، وأن يُفهم الغرب بصورة تختلف عن فهم الغرب لنفسه، فالاستغراب أهدافه معرفية ونقدية، ومنها نقد عقلية الاستتباع الفكري، فهو ليس استشراقا مضادا، بل تأسيس معرفي لفهم الحضارة الغربية وشخصيتها، وفكرها ونظمها، وطموحاتها، وتوجهاتها المستقبلية، وموقفها من الآخر.

ومن ثم فالاستغراب ليس طرحا لمركزية مضادة للمركزية الغربية، لأن ذلك يدعم صراع الحضارات، ومن أهدافه صياغة رؤية للغرب على حظ كبير من الموضوعية، ومن شأن استناده على المقاربة النقدية أن يُفضي بالضرورة إلى الحد من التبعية الفكرية والثقافية، وكسر شوكة التعصب ضد الغرب، فإذا لم يمتلك الشرق المعرفة الكافية عن الغرب فسوف يستمر الصدام الحضاري، كما أن المعرفة الجيدة عن الغرب تتيح الفرصة لمقاومة التيارات التغريبية داخل العالم الإسلامي، وإزاحة الغرب من الصدور والعقول، لذا يجب ألا يتم التعاطي مع علم الاستغراب بوصفه ترفا فكريا، فهناك ضرورة للاهتمام بدراسة الغرب باعتباره ظاهره متغلغلة في تيار يسمى “التغريب”.

وقد طرحت الحوارات ضرورة أن يتخطى علم الاستغراب أطروحات نظريات “ما بعد الاستعمار”، وألا يكون هدفه دراسة آثار ونتائج التجربة الاستعمارية، وأن يتجنب أخطاء الاستشرق، حتى لا ينتج معرفة مؤدلجة عن الغرب تضر ببناء رؤية معرفية صحيحة وواقعية الغرب، فالاستشراق نشأ من خلفيات شبه أسطورية عن الشرق، مصحوبة بدوافع معرفية وحاجات استعمارية، وتفاعل تلك المؤثرات أنتج معرفة مشوهة عن الشرق، كما أن المنهج الاستشراقي يرتكز على مفاهيم ثابتة، كالمركزية الغربية، وعلى ضوئها يُقرأ تاريخ الانسانية ويُقاس تطور الحضارات.

وهناك مشكلة المنهج في علم الاستغراب، وهي ألا تكون محاولة تأسيس ذلك العلم من خلال اتباع منظومة الأساليب والمعرفية والمنهجية الغربية، وهو ما يفرض ضرورة إنتاج منظومات معرفية خاصة وذاتية لفهم الغرب، وألا يخضع علم الاستغراب للمناهج الغربية، ففهم وتحليل الغرب وأخلاقه وفقا لمناهجه، لن يؤدي إلى نتائج إيجابية، فأخلاق الغرب نسبية ومعرفته حسية.

الاستغراب وفقا للمناهج الغربية سوف يقدم الغرب بصورة إيجابية، والاستغراب وفقا للمناهج الإسلامية سوف يقدم الغرب بصورة مغايرة، وشرط علم الاستغراب هو التحرر النفسي والمعنوي من هيمنة الغرب وسطوته على الفكر والعلم، وأن يتأسس من موقع الباحث غير الغربي، كذلك لابد ألا يقتصرعلم الاستغراب على رؤى النخب المشرقية في الغرب، ولكن لابد أن يتجاوزها للاطلاع على موقف الثقافات والأفكار الأخرى من الغرب كالثقافة الهندية والصينية ومثقفي أمريكا اللاتينية واليابان، والاستفادة منها باعتبارها مرتكزات لفهم الغرب ونقده.

وإحدى المشكلات المنهجية هي كيفية التعامل مع العلوم الإنسانية والاجتماعية الغربية، فتلك العلوم تعكس رؤية فلسفية للإنسان ومعنى وجوده، وما أنتجه الغرب من فلسفات ومناهج تعكس في جوهرها رؤيته لهذا الإنسان وللكون وللمجتمع التي قطعت فيها العلاقة مع الغيب والخالق سبحانه وتعالى، وباتت المرجعية للمجتمع، فالاستغراب في حقيقته هو عدم الاستسلام لمرجعية الغرب المنهجية في المعرفة خاصة في العلوم الإنسانية، لذا فهو أحد أدوات النهوض في المشروع الاستقلالي، فلا معنى للاستغراب في ظل التبعية والارتهان، ومن ثم فدور الاستغراب هو تعزيز الاستقلال، وكلما تمكن من أدواته بدت هشاشة التبعية الفكرية من المستغربيين الغارقين في مقولات الغرب وأفكاره.

والاستغراب، في حقيقته، هو نقد للاستتباع والتبعية، وليس تحاملا على الغرب أو التعاطي معه بشكل سلبي، فالطبقة الأعمق في بناء علم الاستغراب هي الأسس المعرفية الفسلفية التي يقوم عليها الغرب، ومبنى الحداثة قائم على الذات الجوهرية والمعرفية للإنسان، فالانسان محور كل شيء، لذا تم حصر الحقيقة في الحس والمادة، وفهم الغرب مدخل لفهم الذات، وكلا الأمران هما جوهر علم الاستغراب، فالغرب والشرق يشكلان حقلا وجوديا للإنسانية.