تعامل نوح عليه السلام بسنة الأخذ بالأسباب؛ لنشر دعوته والتمكين لدينه، ويظهر ذلك في أمور عديدة:
أولا – في أسلوب الدعوة:
مرة بالليل ومرة بالنهار، وأخرى بالسرِّ وأخرى بالعلن، واستخدم خطاب العقل والمنطق والوجدان، واستطاع أن يقنع بعض الأشخاص بسمو دعوته، وقدسيتها وصدقها وتحقيق ما ينفعهم في الدارين
ثانيا – اهتمامه بمن آمن معه:
“وما آمن معه إلا قليل”، فقد عمل نوح – عليه السلام – على تكوين لحمة واحدة منهم، وأن تكون قوّة متماسكة ينصهر بعضها في بعض، فتشكل النواة القلبية وتحمل معها تكاليف الرسالة، ويحرص كل منهم على الآخر، وقام نوح – عليه السلام – بنصحهم وإرشادهم وتهذيبهم وتربيتهم، فكانوا نعم العون له في مناصرة دعوته، وكان هذا القليل الذي نجح نوح – عليه السلام – في إقناعه بالدعوة والذي آمن بها ينفذ أوامر الله بدون تردد، فقد شكل نوح عليه السلام قاعدة صلبة من هؤلاء المؤمنين وعاشوا معه المحنة والمنحة، والبلاء والعطاء، وحققوا أصولاً جامعة لقضية السننية في القلة منها:
- أنهم السابقون إلى الإيمان بالله وتوحيده والصابرون على ابتلاءاته.
- أنهم الثابتون في الأزمات والاختبار.
- أنهم يختارون بعد ابتلاء واختبار.
- أنهم الناصرون للحق ودعوة التوحيد.
- أنهم المستغفرون لله الشاكرون له قولاً وعملاً.
- أنهم على مستوى فقهي وعلمي وإنساني يؤهلهم للمساهمة في تأسيس الحضارة الإنسانية الثانية.
- أنهم على معرفة بالسنن والنواميس الجارية والخارقة في الحياء والأحياء، تعلموها من نوح عليه السلام.
- أنهم الراضون بعطاء الله وقضائه.
- أنهم عادلون في الشركة لا يبغون في الخلطة.
- أنهم خلاصة زمانهم وبقية جيلهم.
- أنهم المنصورون المؤيدون.
- أنهم أصحاب العزم
- شدة صلتهم بالله، أمورهم تبدأ باسم الله وكثيري الحمد لله والدعاء له.
- أنهم أقدر الناس على الثبات والسمع والطاعة لنوح عليه السلام.
- لا يحتنكهم الشيطان.
تلك بعض الأصول الجامعة التي وصف بها أتباع نوح – عليه السلام – الذين أسهموا في تأسيس حضارة السلام والبركات مع نوح عليه السلام.
ثالثا – صناعة الفلك:
ومن فقه نوح – عليه السلام – في سنة الأخذ بالأسباب، شروعه في صناعة السفينة بأمر ربِّه، وقد خضع مشروع الصناعة لخطة عمل وهندسة بناء وتحديد مواد وطريقة تنفيذ وأيدي عاملة مساعدة تستحمل سخرية قومه والذين كانوا يمثلون الكثرة والغلبة ما قبل الطوفان ﴿ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾ [هود:38 – 39].
إنَّ من سنن الله في كونه وشرعه تحتم علينا الأخذ بالأسباب كما فعل ذلك أقوى الناس إيماناً بالله وقضائه وقدره وهو رسول الله ﷺ، لقد قاوم الفقر بالعمل، وقاوم الجهل بالعلم، وقاوم المرض بالعلاج، وقاوم الكفر والمعاصي بالجهاد، وكان يستعيذ بالله من الهمِّ والحزن والعجز والكسل، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوت سنة، ولم ينتظر أن ينزل عليه الرزق من السماء، وقال للذي سأله: أيعقل ناقته أم يتركها ويتوكل؟ قال: اعقلها وتوكل، وقال ﷺ: “وفرّ من المجذوم فرارك من الأسد”.
وما غزوات الرسول – ﷺ- المظفرة إلا مظهراً من مظاهر إرادته العليا التي تجري حسب مشيئة الله وقدره، فقد أخذ الحذر وأعد الجيوش وبعث الطلائع والعيون، وظاهر بين درعين، ولبس المغفر على رأسه، وأقعد الرماة على جبل الرماة، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجر بنفسه، واتخذ أسباب الحيطة في هجرته، وأعد الرواحل التي يمتطيها والدليل الذي يصحبه، وغير الطريق واختبأ في الغار، وكان إذا سافر في جهاد أو عمرة حمل الزاد وهو سيد المتوكلين.
إنَّ قدر الله حق وقدر الله نافذ، ولكنه ينفذ من خلال السنن التي قام عليها نظام الكون من خلال الأسباب التي خلقها سبحانه وسرعها، وليستقيم عليها أمر الوجود ونظام التكليف، فهذه السنن والأسباب جزء لا يتجزأ من قدر الله الشامل المحيط.
إنَّ قصة نوح عليه السلام تعلمنا الأخذ بالأسباب والعمل على استقصاء تلك الأسباب للوصول إلى المراد خاصة بالمواقع الصعبة التي تواجه الأفراد والشعوب والأمم، وقد جعل الله نجاة نوح ومن آمن معه بصناعة السفينة وبإتقان علم صناعة السفن وقوانينها في البحار، وكان لنوح عليه السلام والذين معه همة وعزيمة في استيعاب العلوم الربانية التي ساعدتهم على إنتاج هذا الصرح الحضاري الكبير.
رابعا – بذور الحضارة الإنسانية الثانية:
حمل نوح – عليه السلام – في سفينة الحياة من أنواع الحيوان والطيور والنبات المعروفة لنوح عليه السلام في ذلك الزمان والميسرة كذلك لبني الإنسان “قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ”، فجاءت “قلنا” بنون العظمة، ولا ريب أن الحادث جلل وضخم وعظيم، فناسب نون العظمة.
لقد أخذ نوح – عليه السلام – بتوجيه الله تعالى له وحمل من كل زوجين اثنين معه، وكان ذلك سبباً في انطلاق الحضارة الإنسانية الثانية وازدهارها.
ويظهر لنا تعامل نوح – عليه السلام – بسنة الأخذ بالأسباب في أمور كثيرة من أهمها:
- أسلوبه في الدعوة إلى الله.
- اهتمامه بمن آمن معه.
- صناعة السفينة.
- حمله لبذور الحضارة الإنسانية في السفينة.
المصادر والمراجع:
البخاري، الجامع الصحيح، 5/5380.
رمضان خميس، سنة الله في القلة والكثرة في ضوء القرآن الكريم، نقل بالتصرف، ص. ص 103 – 104.
سعاد ميسر، عقيدة التوحيد، ص 212.
علي الصلابي، نوح والطوفان العظيم ميلاد الحضارة الإنسانية الثانية، ص 28-32.
يوسف القرضاوي، الإيمان بالقدر، ص 165.