إن الله سبحانه وتعالى -في أعراف المؤمنين-ظاهراً ظهوراً واضحاً، وهو عز وجل أظهر من كل ما سواه. إن المؤثِّر في أعراف المؤمنين أظهر من الأثر، والخالق أوضح من الخلق، والمكوِّن أجلى من الكون، وإن من أسماء الله اسم “الظاهر”.

يقول تاج الدين بن عطاء الله السكندري عن هذا المعنى -متفنناً في التعبير والمعنى-جملة من التعبيرات تتَّحد ألفاظها إلا لفظاً واحداً أو لفظين، فيتغير المعنى بسبب ذلك ويكون للعبارات في مجموعها معنى لطيف… إنه يقول:

-كيف يُتصور أن يحجبه شيء وهو الذي أظهر كل شيء؟ كيف يُتصور أن يحجبه شيء وهو الظاهر قبل وجود كل شيء؟ كيف يُتصور أن يحجبه شيء وهو أظهر من كل شيء؟ كيف يُتصور أن يحجبه شيء وهو أقرب إليك من كل شيء؟ كيف يُتصور أن يحجبه شيء ولولاه ما كان وجود شيء؟

أما عن الاستدلال بالأثر على المؤثِّر فإن ابن عطاء يقول في مناجاته:

“إلهي كيف يُستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟”

والمفتقر إلى الله -في كلمة ابن عطاء الله-هو الكون كله، هو هذه الآثار كلها، في وجودها وفي ارتباطها، وفي إمساكها، وفي العناية بها.

ويتابع ابن عطاء الله مناجاته فيقول متجهاً إلى الله:

– أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهِرَ لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟

وفي هذا المنهج كلام كثير، ومهما يكن من شيء فإنه سواء سار الإنسان على النهج الصوفي أو على نهج الاستدلال فالله موجود، وقد كان في أزل ولا شيء معه ثم خلق الخلق.

ومن أسماء الله الحسنى “الظاهر”، ومن معاني كلمة الظاهر هو أن الله لكثرة البراهين الدالة عليه، ولكثرة الدلائل التي تشير إليه ظاهر… قيل يا إمام متى كان الله؟ فقال الإمام علي: ومتى لم يكن؟

وقال العلماء: لقد خلق الله كل الكائنات لتظهر آثار قدرته فيها، وهو سبحانه وتعالى ظاهر عليها من جميع الجهات.

ومن أدق الكلمات وأوضحها أن يقال: الكون كله بما فيه ومن فيه مظهر من مظاهر أسمائه وصفاته، وعلاماته، كل الكون يدل على الله أبداً، كل الكون بمجراته، بالسماوات، والأرض، والنبات، والحيوان، والأطيار، والأسماك، والإنسان، والطعام، والشراب، لذلك فإن أكبر وظيفة للكون أن نتعرف على الله من خلاله، ولو لم نستفِد منه، لكن الذي استفاد من هذا الكون ولم يتعرف على الله من خلاله ما حقق الهدف من وجوده.

وقيل في الاسم الظاهر هو المتجلي بأنوار هدايته وآياته، المتنزّه بمعاني أسمائه وصفاته، فهدايته واضحة، وآياته واضحة.

قال العلماء لا ترى ذرة في الوجود إلا وهي ناطقة بوحدانية المعبود، ولا ترى فاضلاً متخلّقاً بصفات الرجال إلا وتشهد عليه أنوار صفات الكبير المتعال، كل الخير من الله، كل الكمال من الله، كل الأعمال الصالحة بتوفيق الله، بإلهام الله، مصدر الكمال في الكون هو الظاهر. قالوا: الظاهر لا يخفى على كل متأمل، أيُّ إنسان أراد الحقيقة فالله يظهر له. قالوا: هو الظاهر فلا يخفى على كل متأمل، الظاهر لعيون الأرواح والكون، محلّى بالكمال، وكل شيء فيه ينادي: أشهد أن خلَّاقي ذو الجلال والإكرام ظاهر. والظاهر: هو الظاهر على كل شيء دونه، وهو العالي فوق كل شيء، فلا شيء أعلى منه.وقد قال الإمام ابن القيم عن اسم الجلالة (الظاهر) في نونيته:

والظاهر العالي الذي ما فوقهشيء كما قد قال ذو البرهانِ
حقاً رسول الله ذا تفسيرهولقد رواهُ مسلمٌ بضمانِ
فاقبله لا تقبل سواه من التفاسير التي قيلت بلا برهانِ
والشيء حين يتمُّ منه علوُّهفظهوره في غاية التبيانِ
أَوَما ترى هذي السما وعلوَّهاوظهورها وكذلك القمرانِ
والعكس أيضاً ثابتٌ فسُفُولُهُوخفاؤُهُ إذ ذاك مصطحبانِ
فانظر إلى علو المحيط وأخذِهِصفةَ الظهور وذاك ذو تبيانِ
وانظر خفاءَ المركز الأدنى ووصــف السفل فيه وكونه تحتاني
وظهوره سبحانه بالذات مثـــلُ علوه فهما له صفتانِ
لا تجحدَنَّهما جحودَ الجهم أوصافَ الكمال تكون ذا بهتانِ
وظهوره هو مقتضٍ لعلوِّهوعلوُّه لظهوره ببيانِ

.

ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: و”الظاهر” يدل على عظمة صفاته، واضمحلال كل شيء عند عظمته من ذوات وصفات، ويدل على علوِّه.

واسم الله الظاهر مقترن بالباطن، ومن أسرار اقتران أسماء الله الحسنى: الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، فمعرفة هذه الأسماء الأربعة؛ الأول والآخر والظاهر والباطن هي أركان العلم والمعرفة، فحقيق بالعبد أن يبلغ في معرفتها إلى حيث تنتهي به قواه وفهمه.

فمدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة؛ وهي إحاطتان زمانية ومكانية، فإحاطة أوَّليَّته وآخريَّته بالقبل والبعد، فكل سابق انتهى إلى أوَّليَّته، وكل آخر انتهى إلى آخريَّته، فأحاطت أوليَّته وآخريَّته بالأوائل والأواخر، وأحاطت ظاهريَّته وباطنيَّته بكل ظاهر وباطن، فما ظاهر إلا والله فوقه، وما من باطن إلا والله دونه، وما من أول إلا والله قبله، وما من آخر إلا والله بعده؛ فالأولُ قِدمُه، والآخرُ دوامُه وبقاؤُه، والظاهرُ علوُّه وعظمتُه، والباطنُ قربُه ودنوُّه، فسبق كلَّ شيء بأوَّليَّته، وبقي بعد كل شيء بآخريَّته، وعلا على كل شيء بظهوره، ودنا من كل شيء ببطونه، فلا تواري منه سماءٌ سماءً، ولا أرضٌ أرضاً، ولا يحجب عنه ظاهرٌ باطناً، بل الباطنُ له ظاهرٌ، الغيبُ عنده شهادةٌ، والبعيدُ منه قريبٌ، والسرُّ عنده علانيةٌ، فهذه الأسماء الأربعة تشتمل على أركان التوحيد؛ فهو “الأولُ” في آخريَّتِهِ، و”الآخرٌ” في أوَّليَّته، و”الظاهرُ” في بطونه، و”الباطنُ” في ظهوره، لم يزل أولاً، وآخراً، وظاهراً، وباطناً().

وقد أورد ابن القيم هذه الأسماء مجتمعةً في نونيَّته الشهيرة حيث قال:

هو أولٌ هو آخرٌ هو ظاهرٌهو باطنٌ هيَ أربعٌ بوِزانِ
ما قبلَهُ شيءٌ كذا ما بعدَهُشيءٌ تعالى اللهُ ذو السُّلطانِ
ما فوقَهُ شيءٌ كذا ما دونَهُشيءٌ وذا تفسيرُ ذي البُرهانِ
فانظرْ إلى تفسيرِهِ بتدبُّرٍوتبصُّرٍ وتعقُّلٍ لِمَعانِ

.

فالله سبحانه لَمّا كان هو الأول الذي خلق الكائنات، والآخر الذي إليه تصير الحادثات، فهو الأصل الجامع؛ فالعلم به أصل كل علم وجامعه، وذكرُهُ أصل كل كلام وجامعه، والعمل له أصل كل عمل وجامعه. وليس للخلق صلاح إلا في معرفة ربهم وعبادته.


المصادر والمراجع:

  • ابن القيم الجوزية، طريق الهجرتين وباب السعادتين، دار السلفية، القاهرة، ط 2، 1394، ص 25. نونية ابن القيم الجوزية، تحقيق: زهير الشاويش، ط1 1404 ه، 2/ 213.

  • الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن، 27/124.

  • عبد العزيز الجليل، ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها، دار طيبة، الرياض، ط3، 1430ه-2009م، ص 174-176.

  • عبد الكريم عبيدات، الدلالة العقلية في القرآن ومكانتها في تقرير مسائل العقيدة الإسلامية، ص 24.

  • علي محمد الصلابي، قصة بدء الخلق وخلق آدم عليه السلام، ص 92-97.

  • محمد بن عبد الله الخرعان كلام ابن تيمية نقلاً عن: قصة الخلق، دار كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع، الرياض، ط 1، 2008، ص 13.

  • محمد راتب النابلسي، موسوعة أسماء الله الحسنى، دار المكتبي، دمشق، سوريا، ط3، 1425ه-2004م، 2/1004-1010