هذا السؤال الذي عنونتُ به المقال، يتضمن أمرين مهمين؛ أولهما: الشعور بالمأزق الحضاري الذي نحياه. ثانيهما: البحث عن معالم النهوض التي ينبغي أن نسلكها، والأصول التي علينا أن نستعيدها.

وكلا الأمرين معًا- الشعور بالأزمة، والبحث عن المخرج- علامةٌ على الصحة، وإشارة إلى أننا نسير بالاتجاه المطلوب؛ ذلك أن عدم الإحساس بالأزمة لن يجعل المرء يبحث عن أسباب النهوض؛ بالعكس، سيُكسِبه نوعًا من الشعور الزائف من الرضا عن النفس، وعن الواقع الذي قد لا يكون محلاًّ للرضا!!

فالإنسان إذا فقد الشعور بالألم، كيف سيبحث عن طبيب!! إنه- حينئذ- سيترك نفسَه حتى يفترسه المرض تمامًا! أما من يشعر بالمرض، ويتألم من الوجع؛ فإنه سيبادر ويَجدُّ في البحث عن أمهر الأطباء، وأنجع الأدوية.

إن مجتمعاتنا تعيش أزمة حضارية، وتلك حقيقة مؤكدة لا يجادل فيها أحد، إلا من أصيب بالشعور الزائف من الرضا عن الذات.. ولهذا لم يعد السؤال: هل نحيا أزمة حضارية أم لا؟ وإنما: كيف نخرج من الأزمة التي نحياها؟ مما يُعدُّ تقدمًا إيجابيًّا باتجاه الانعتاق من هذا المأزق الحضاري.

وأعتقد أن على رأس ما تحتاجه مجتمعاتنا لتحقيق هذا النهوض المأمول، ثلاثة أمور؛ وهي: التصالح مع التراث، والتصالح مع الرأي العام، والتصالح مع العلم.

التصالح مع التراث

“التراث” في كل أمة هو روحها التي تسري في مختلف جوانب حياتها، وهو جذورها التي لا تكف عن التمدد على مدار تاريخها وتحولاتها لتُزهِر أوراقًا ناضرة وثمارًا يانعة.

وإذا كانت هذه هي مكانة “التراث” في أي أمة من الأمم، فإن “التراث الإسلامي” هو ذو مكانة أشد وأعظم عند أمتنا؛ لأن هذا التراث لم يكن ذا دور حاسم في تشكُّل الأمة فحسب، وإنما هو الذي صاغها وأنشأ مسيرتها..

فالعرب- وهم عماد أمة الإسلام- لم يكن لهم قبل الإسلام حضور يُذكر، ولا آثار تُشهد؛ وكانوا في مرمى الطمع والتسلط ممن جاورهم من الفرس والروم.. فلما جاء الإسلام أحياهم من موات، وجمعهم من شتات، وأقامهم من فرقة، وأعلاهم من خمول! فبالإسلام عُرفوا، وعليه نهضوا، ومنه استمدوا حضورهم وفاعليتهم.. فإذا كانت تصح إضافة “الإسلام” إلى “التراث”- وهي إضافة صحيحة إذا فرَّقنا بين القرآن والسنة من جهة، وسائر العلوم التي نبعت منهما ودارت حولهما من جهة أخرى؛ لنميِّز بين النص الإلهي المقدَّس، والنص أو الفهم البشري غير المقدس- إذا صحَّت هذا الإضافة، وقلنا “التراث الإسلامي”، فينبغي أن نعلم أن هذا “التراث” بالنسبة لأمة الإسلام يحتل مكانة أكبر وأهم من مفهوم “التراث” بالنسبة للأمم الأخرى.

لكن للأسف، جرى تشويه كبير لتراثنا؛ بفعل موجات التغريب التي حدثت في القرنين الأخيرين، وانشطار التعليم بين ديني ومدني، وتدفُّق موجاتٍ ثقافية مختلفة عبر الفضاءات المفتوحة.. حتى رأينا الاستهانة بهذا التراث، والتقليل من دوره وأهميته؛ فضلاً عن القراءات المغلوطة التي تمت بحقه، من خلال رؤيته ضمن منظور ومسار يخص تراث الآخرين وقضاياهم ومعاركهم؛ أي ضمن رؤى إسقاطية واختزالية وعدائية..

ولهذا نحن بحاجة للتصالح مع تراثنا، وإدراك دوره الذي اضطلع به فيما مضى، ويقدر على أن يضطلع به أيضًا فيما هو آت؛ وأن نميِّز في هذا التراث بين ما هو ثابت ويحتفظ بفاعليته، وما هو متغير ولا يناسب حركة الزمان المتجددة.. مما ينبني على إيمان راسخ بأن رسالة الإسلام هي كلمة الله الأخيرة للبشرية، ومنهجه الذي ارتضاه لعباده حتى قيام الساعة.

التصالح مع الرأي العام

إذا كانت النهضة مسارًا يعبِّر عن حركة المجتمع ككل، وليس عن طبقة من طبقاته، ولا فئة من فئاته؛ فإننا محتاجون إلى أن نوسع القاعدة المشاركة في هذا النهوض؛ وأن نتصالح مع الرأي العام؛ بما يَعنيه ذلك من الشفافية في الحكم، والمسئولية لدى من يتصدون مواقع القيادة، وإعلاء المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، واحترام القانون والمؤسسات.. فهذه الأمور هي الضامنة بألا تخرج حركة المجتمع عن المسار الصحيح المطلوب، وبأن تحقق النهضة الآمال المرجوة منها.

وتدلنا تجارب الأمم على أن إحراز التقدم الحقيقي والدائم مرهون بمدى المشاركة الواسعة الفاعلة التي تسهم فيه وتدعمه؛ وأنه لا يمكن السير بالمجتمع إلى الأمام بينما هو منقسم على ذاته، أو تستأثر فئة بزمام الأمر فيه.

والإسلام قد أرسى دعائم قيم المسئولية والشفافية والعدالة والمبادرة، وضَمِنَ حقوق الفرد والمجتمع.. ثم ترك تنظيم ذلك لما يرتضيه الناس ويألفونه، مما هو متغير مع تغير الزمان والمكان.. فلا ضير في أي وسيلة يتخذها الناس، ما دامت هذه القيم محفوظة موفورة.

التصالح مع العلم

في الجانب النظري: ليس هناك كتاب رسالة سماوية احتفى بالعلم، مثل القرآن الكريم؛ فقد جعل القرآن العلم سبيلاً لمعرفة الله وخشيته، وأمر بالسير في جنبات الكون، وعدَّ الكونَ كتابًا منظورًا تتكامل غايته مع الكتاب المنزَّل المقروء! والآيات في ذلك معروفة وكثيرة.

وفي الجانب العملي: قامت الحضارة الإسلامية على العلم، ورفضت الخرافة والكهانة والشعوذة؛ بل نعت على الظن بغير علم، والقول بلا دليل، ومحَّصت موروثات الأمم السابقة من علوم الفرس واليونان والهند، وأخضعتها للتجربة والاختبار، لأن كثيرًا منها كان علمًا نظريًّا؛ إذ لم يستقر “المنهج التجريبي” إلا في ظلال الحضارة الإسلامية.

هذه لمحة عن الموقف النظري والعملي بالنسبة لرؤية الحضارة الإسلامية للعلم.. ثم تتالت أجيال وأزمان رأينا فيها استخفافًا بالعلم، وازدراءً لقوانينه، وركونًا إلى السحر والدجل، من ناحية.. واستسهالاً في نقل نتائج العلم وثمراته، أو قشوره، من ناحية أخرى.. بحيث لم نشهد خطوات جادة لاستنبات حركة علمية تقوم على أسس صحيحة باقية فاعلة. وبالتالي، فرغم كثرة الشهادات العلمية في مجتمعاتنا، لم نَجنِ ثمرات ذلك، ولم نَرَ تحولاً في حياتنا العلمية؛ وما زلنا- كما كشفت أزمة “كورونا” مؤخرًا- نعلِّق الأبصار بما تنتجه المعامل والمصانع لدى الآخرين!

والتصالح مع العلم يتطلب أن نزيد في ميزانيات البحث العلمي، ونوفر المناخ المناسب ماديًّا ومعنويًّا، ونحافظ على الكفاءات المتميزة حتى لا تتحول إلى “عقول مهاجرة”.. مع تصحيح المفاهيم المغلوطة التي تحصر “العلم” في المعرفة الشرعية، ولا تقدِّر علوم الكون كما ينبغي.. بالإضافة إلى اعتماد “المنهج العلمي” أسلوبًا لإدارة مناحي الحياة المتعددة، بعيدًا عن الارتجالية والعشوائية.

بهذه الثلاثية، أعتقد أننا نكون قد وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيح.. نحو استئناف دورنا ومكانتنا الحضارية..