الضبط عند علماء الحديث نوعان: ضبط صدر، “وهو أن يثبت – الراوى – ما سمعه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء”[1]، وضبط كتاب، وهو أن يثبت ما سمعه في الكتاب إلى أن يروي منه عند الأداء.

وضع المحدثون حديث “من كذب على مُتَعَمدا فليتبوء مَقْعَده من النَّار”[2] نصب أعينهم عند الرواية وعند الأداء، ويتخوفون من أي زلة أو خطأ في الحديث ما استطعوا إلى ذلك سبيلا، ويحذرون تلاميذهم من ذلك أيضا، وقد كان عفان بن مسلم “يحض أصحاب الحديث على الضبط والتغيير ليصححوا ما أخذوا عنه من الحديث” [3]

فاشتراط المحدثين الضبط في رواية الراوى العدل، وعدم الاكتفاء بعدالته إنما من أجل التأكد من سلامة الحديث مما يطرأ أو يشوب بعض الألفاظ من إفساد المعنى، سواء في السند أو في المتن أو فيهما معا، فاشتراط الضبط في الرواية هو الذى يوجب أن يكون الراوى يقظا واعيا لما يسمع ويكتب، وأن يؤدي مروياته بالدقة والحذر.

وقد عبر الإمام مالك عن هذا المبدأ قائلا:” لقد أدركت سبعين ممن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الأساطين – يعني مسجد النبي صلى الله عليه وسلم- فما أخذت عنهم شيئا، وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان به أمينا؛ لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن، وقدم علينا ابن شهاب فكنا نزدحم عند بابه”[4] وتأمل هذه المقولة كيف لا يلتفتون إلى عدالة الراوى حتى يكون ضابطا متقنا كما هو حال الزهري.

يقول حماد بن سلمة لأصحاب الحديث: «ويحكم غيروا»  يعني قيدوا واضبطوا “[5]

 ومن وقف على جهود المحدثين في هذا الباب عن كثب تبين له مدى تفانيهم في تنقية ألفاظ السنة النبوية وتخليصها من الشوائب والخلل الناشئ عن سوء الفهم جراء اختلال الضبط، وكانت جهودهم في مكافحة ذلك متمثلة في أبواب عديدة من مباحث علم الحديث، ومن ذلك:

  • كيفية الرواية وطرق التحمل: أشبع أهل العلم بالحديث هذا المبحث بحثا طويلا وألفوا فيه مؤلفات عديدة نظرا لأهميته، بينوا فيه شدة حاجة الراوى إلى العلم بطرق التحمل الثمانية[6]وصيغها عند الرواية عن الشيخ، ومعرفة صيغ الأداء وشروطها وصورها وضوابطها وغير ذلك مما يتعين على الراوى معرفته.
  • عدم جواز الرواية بالمعنى إلا من عالم متقن في اللغة العربية، وعالم بما يحيل المعانى، وعدم جوازه مطلقا في الألفاظ التوقيفية كالأسماء والصفات والأذكار ونحوهما.  
  • كتابة الحديث وضبطه: يقرر المحدثون في هذا المطلب ضرورة عناية الراوى بضبط الحديث شكلا ونقطا وأن يكون خطه واضحا على قواعد علماء الخط بما يؤمن من أي إلتباس الألفاظ والأسماء، وأنه يجب عليه بعد انتهائه من الكتابة أن يقابل كتابه بكتاب شيخه الذى نقله منه ليتأكد من صحة النقل.
  • صيانة الكتاب: أي وجوب حماية كتابه من التغيير والعبث والاهمال “منذ سمعه فيه وصححه إلى أن يؤدي منه” “من غير أن يعيره، حيث لا أمن من تغيير المستعير فلا يضر وضعه أمانة عند غيره[7].
  • التصحيف والتحريف: بمعنى حدوث التغيير في الكلمة أو اللفظ أو المعنى بسبب الخلل في الضبط أو عدم أخذ العلم من أفواه العلماء، ويسمى هذا المبحث بـالمصحف والمحرف، “ومعرفة هذا النوع أمر مهم أوقع العلماء في الاهتمام به”[8] ولا ينهض بأعبائه إلا الحذاق من الحفاظ كما قال ابن الصلاح[9]، ولأهميته أفردوه بمؤلفات كثيرة ومن أقدمها وأشهرها وأنفسها ” شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف” للعسكري وللدارقطنى أيضا مؤلف فيه.

والخلاصة أن الضبط أصل أصيل في الرواية، ومتى تطرق إليه خلل فإنه يؤدي إلى عدم الاحتجاج بالمروية المختلة أو الراوى إذا غلب عليه ذلك، ولذا كان منهج المحدثين على الدقة في نقد ضبط الرواة، سواء ضبط الصدر أو ضبط الكتاب.

أثر اختلال الضبط في الأفهام

مما ينتج عن اختلال الضبط أنواع عديدة من الفهوم الخاطئة، سواء كان في الأسانيد أو المتون ومنها التصحيف، وقال علي بن المديني: ” أشدُّ التصحيف في الأسماء “[10] وقسم العلماء التصحيف إلى أقسام متعددة وفق أسبابها وكلها يرجع إلى الضبط.

ومن أقسام التصحيف: تصحيف المعنى، وهو الذي ينشأ عن الفهم الخاطئ المتحصل لدى الراوى المؤدى إلى تغيير المعنى غير المقصود من اللفظ المروى، وله أمثلة كثيرة،

ومن ذلك:

1- قول محمد بن المثنى:” نحن قوم لنا شرف، نحن من عنزة، قد صلى النبي صلى الله عليه وسلم إلينا، لما روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى عنزة» ، توهم أنه صلى إلى قبيلتهم، وإنما العنزة التي صلى إليها النبي صلى الله عليه وسلم هي حربة كانت تحمل بين يديه فتنصب فيصلي إليها “[11]

وقال السيوطي: وأعجب من ذلك ما ذكره الحاكم عن أعرابي أنه زعم أنه صلى الله عليه وسلم صلى إلى شاة، صحفها عنزة، بسكون النون، ثم رواه بالمعنى على وهمه فأخطأ من وجهين.[12]

2- فهم آخر من حديث «نَهَى أَنْ يَسْقِيَ الرَّجُلُ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ» المنع من سقي بساتين الجيران، فقال جماعة ممن حضروا: قد كنا إذ فضل عنا ماء في بساتيننا سرّحناهُ إلى جيراننا ونحن نستغفر الله، فما فهم القارئ ولا السامع ولا شعروا أن المراد وطءَ الحبالى من السبايا.

3- فقد صلى أحدهم الوتر بعد الاستنجاء من غير إحداث وضوء، واستدل على هذا العمل بقوله عليه السَلاَمُ: «مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ» فهم منه صلاة الوتر، مع أن المراد منه إيتار الجمار عند الاستنقاء.

4- وظل أحدهم لا يحلق رأسه قبل صلاة الجمعة أربعين سَنَةً على ما فهم من حديث نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحِلَقِ قبل الصلاة يوم الجمعة، مع أنه الحِلَق بفتح اللام، والمراد منه النهي عن عَقْدِ الحَلَقَاتِ المُؤَدِّي إِلَى مُضَايَقَةِ النَّاسِ يوم الجمعة في المسجد[13]

وهذه الأمثلة توضح مدى الآثار السيئة الوليدة جراء اختلال الفهم في الضبط.

أثر الضبط في اختلاف الأحكام

رأى بعض المحدثين أن تنقيط الحديث وتشكيله إنما يكون متعينا فيما يشكل ويشتبه، وقال بعضهم: إنما يُشْكَلُ مَا يُشْكِلُ، وأما النقط فلا بد منه، بينما ذهب بعضهم إلى وجوب شكل ما أشكل وما لا يشكل، وهذا هو الصواب كما قال القاضى عياض، “لا سيما للمبتدىء وغير المتبحر في العلم فإنه لا يميز ما أشكل مما لا يشكل ولا صواب وجه الإعراب للكلمة من خطائه”[14]

وكم من مسائل خلافية في الفقه وغيره مردها إلى ضبط الألفاظ والإعراب، ومن أشهرها

1- حديث” ذكاةُ الجنين ذكاةَ أمه” فضبط الجمهور (ذكاة أمه) بالرفع، وضبطها أبو حنيفة بالنصب، وتغير الحكم الشرعي بسبب الضبطين، “فمن رفعه جعله خبرًا للمبتدأ الذي هو ذكاة الجنين فتكون ذكاة الأم هي ذكاة الجنين فلا يحتاج إلى ذبح مستأنف”[15] وهذا ما عليه أكثر أهل العلم.

قال الحافظ المنذري:” والمحفوظ عن أئمة هذا الشأن في تفسير هذا الحديث الرفع فيهما.[16] “ومن نصب كان التقدير ذكاة الجنين كذكاة أمه” أي له تذكية تخصه لوحده[17] فقد قال أبو حنيفة بتحريم الجنين إذا خرج ميتا، وإنها لا تغني تذكية الأم عن تذكيته[18].

2- ومما أشار إليه القاضى عياض أيضا في هذا الباب حديث «لا نورث، ما تركنا صدقة» فالجماعة يروونه برفع صدقة على الخبرية؛ لأن الأنبياء لا يورثون، والإمامية يروونه بالنصب على التمييز، والمعنى أنه لا يورث ما تركوه صدقة دون غيره. ولو كان كما قالوا لم يكن فرق بينهم وبين غيرهم ولم يكن لتخصيص الأنبياء عليهم السلام فائدة[19]

3- وحديث: «زادك الله حرصا ولا تعد» ورد الاختلاف في المراد بقوله عليه الصلاة والسلام “ولا تعد” وضبطه على المشهور[20]وَلاَ تَعُدْ ” بفتح أوله وضم العين من العود أي: لا تفعله مثل ما فعلته ثانيا. وروي “وَلا تَعْدُ “بسكون العين وضم الدال من العدو، أي: لا تسرع في المشي إلى الصلاة، واصبر حتى تصل إلى الصف، ثم اشرع في الصلاة، وقيل: بضم التاء وكسر العين من الإعادة، أي: لا تعد الصلاة التي صليتها.[21]

وانتقد الشيخ الجزري ما روي في ضبطه غير المشهور وأنه “لم يأت به رواية، وإنما يحملهم على ذلك في أمثاله من تحريفهم ألفاظ النبوة وتغييرها؛ كونهم لم يحفظوها أو ما وصلت إليهم بالرواية، فيذكرون ما يحتمله الخط لعدم معرفتهم باللفظ المروي”[22]

ومن أمثلة ضبط الألفاظ:

حديث:” ((إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)) وضبطه بعضهم بلفظ: ((فاقضوا)) وعلى هذين الضبطين اختلف الفقهاء في معنى الحديث، ومن ضبطه بلفظ ” فأتموا” يرى فيه دليلا أن الذي أدركه المسبوق من صلاة إمامه هو أول صلاته

وأما من ضبطه بلفظ ” فاقضوا” يرى أن القضاء لا يكون إلا لفائت، ومعلوم أن الفائت من صلاة المأموم ما سبقه به إمامه[23]وذهب الحافظ إلى “أنّ أكثر الروايات وردت بلفظ: “فأتموا”، وأقلها بلفظ: “فاقضوا[24]

وجماع القول من هذا كله، أنه يجب أخذ العلم عند أهله المتخصصين ولا ينبغى التعلم المباشر من بطون الكتب دون الرجوع إليهم، ولذا قال سعيد بن عبد العزيز التنوخي:” لا تحملوا العلم عن صحفي، ولا تأخذوا القرآن من مصحفي”[25]

ولا بد من ضبط السنة النبوية بواسطة الشيخ المتقن المحرر نظرا لمكانتها وعمق علمها، يقول السخاوي:” والحاصل أنه يبالغ في ضبط المتون لأن تغييرها يؤدي إلى أن يقال عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقل أو يثبت حكم شرعي بغير طريقه.[26]


[1] نزهة النظر ص:61

[2] رواه البخاري (110)

[3] الجامع لأخلاق الراوى 1/277

[4] – توجيه النظر إلى أصول الأثر 1/93

[5] – الجامع لأخلاق الراوى 1/277

[6] – السماع من لفظ الشيخ.ب- والقراءة عليه. ج- والإجازة بأنواعها. د- والمناولة. هـ- والمكاتبة. و والإعلام. ز- والوصية. ح- والوجادة

[7] – توضيح الأفكار 2/87

[8] – شرح نخبة الفكر للقارى ص:492

[9] ينظر: مقدمة ابن الصلاح ص:279

[10] أخبار المصحفين ص: 32 _ 33

[11] الجامع لأخلاق الراوى 1/295

[12] تدريب الراوى 2/650

[13] – ينظر كتاب مداخل الشيطان على الإنسان 6/  وكتاب السنة ومكانتها للسباعي ص: 406

[14] الإلماع ص:150

[15] عقود الزبرجد في إعراب الحديث النبوي للسيوطي 1/ 256

[16] تحفة الأحوذي 5 /43

[17] عقود الزبرجد في إعراب الحديث النبوي للسيوطي 1/ 256

[18] تحفة الأحوذي 5/ 41

[19] ينظر: الإلماع ص:150 وفتح المغيث 3/46

[20] ينظر: فتح الباري 2/269

[21]  مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 3/857

[22] ينظر المصدر السابق

[23] ينظر: معالم السنن 1/163 شرح صحيح البخارى لابن بطال 2/262

[24]  فتح الباري 2/ 119.

[25] شرح نخبة الفكر للقارى ص:78

[26] فتح المغيث 3/47