نشأت كثير من العلوم في الحضارة الإسلامية حول الوحي، لخدمته، وتبليغ رسالته، والذود عن الشبهات التي تحوم حوله، فكان الوحي يشبه المركز في الدائرة، والعلوم الناشئة تقتبس من أنواره وقوته، وهو ما ربط تلك العلوم بالأسئلة الوجودية والفلسفية، وأقامها على أسس من التكامل لتحقيق المقصد والغاية، وربطها دوما بحقائق الوجود والكون والإنسان، فكان الإنسان بعقله وعينيه الصغيرتين يرى الكون، وينطلق من تلك المشاهدة لتعميق إيمانه، وربط الكون بخالقه، وتوثيق علاقة الإنسان بالخالق-سبحانه-، فلم يطلب العلم للسيطرة على الكون أو إفساده.
وحول هذه الرؤية يأتي صدور العدد الحادي عشر من مجلة “نـماء” خريف 2020، المعنية بعلوم الوحي والدراسات الإنسانية، والتي ناقشت مجموعة من القضايا المهمة، منها: التكامل المعرفي في التراث العربي، وإشكالية توظيف المفاهيم الأنثروبولوجيا في دراسة المجتمعات العربية، والتأسيس المقاصدي للمشترك الإنساني.
المقاصد والإنسانية
تناول العدد قضية “التأسيس المقاصدي للمشترك الإنساني”، وهي مسألة تفتح الرؤية الإسلامية على الآفاق الإنسانية وتبني مشتركات مع المجتمعات المختلفة، يبرز فيها عطاء الإسلام وقدرته على منح الإنسانية ما تصبو إليه، فالإسلام دين الفطرة.
والفطرة، كما يقول “أبو زيد البلخي” في كتابه “مصالح الأبدان والأنفس”: “إن الله عز وجل خصَّ الإنسان بقوة التمييز ليعرف النافع فيجتلبه والضار فيجتنبه ليكون ذلك سببًا إلى صلاح معاشه ومعاده، وذريعة إلى إحراز خير عاجله وآجله، وآلته في اجتلاب المنافع، واجتناب المضار نفسه فبدنه، فبصلاحهما يتهيأ له بلوغ الواجب من ذلك عليه إذ ليس للإنسان سواهما.
ويقول “ابن القيم” في بيان علاقة الشريعة بالفطرة: “إنما جاءت الشرائع بتكميل الفِطَر وتقريرها، لا بتحويلها وتغييرها، فما كان في الفطرة مستحسنًا جاءت الشريعة باستحسانه… وما كان في الفطرة مستقبحًا جاءت الشريعة باستقباحه”، وعقد “الطاهر بن عاشور” في كتابه “مقاصد الشريعة” فصلًا بيّن فيه أن مبنى مقاصد الشريعة على الفطرة، على اعتبار أن الفطرة هي أصل العقلانية وأساس الاشتراك بين بني الانسان، فيقول:”ونحن إذا أجدنا النظر في المقصد العام من التشريع… نجده لا يعدو أن يساير حفظ الفطرة والحذر من خرقها واختلالها”، ثم يقول:” فوصف الإسلام بأنه الفطرة معناه أنه فطرة عقلية، لأن الإسلام عقائد وتشريعات؛ وكلها أمور عقلية أو جارية على وفق ما يشهد به العقل ويدركه”، ويرى المصلح المغربي “علال الفاسي” أن التشريع الإسلامي خاضع للعُرف الإنساني الذي تعارفت عليه الإنسانية منذ نشأتها، ولم يخرج عنه دين من الديانات ولا مذهب من المذاهب السليمة.
ويؤكد الشيخ “العز بن عبد السلام” أن ” معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروفة بالعقل، وكذلك معظم الشرائع”، ويقول في موطن آخر:” وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من ذلك طُلب من أدلته”، ويقول “ابن القيم”:” الشَّرَائِع كلها في أُصولها -وإنْ تباينت- متفقةٌ مركوزٌ حُسْنها في العقول ولو وقعت على غير مَا هِيَ عَلَيْهِ لَخَرَجت عَن الْحِكْمَة والمصلحة وَالرَّحْمة “، فكل عقل وكل لغة يعتبر فيها “العدل” كلمة نبيلة حبيبة على النفوس، وكلمة الصدق، وكلمة الحرية، والتسامح، والوفاء، وغيرها من الألفاظ المحمودة عند كل الأقوام.
و”المشترك الإنساني”، مفهوم عالمي يتقاطع مع بعض المفاهيم الإسلامية الأصيلة، والمندرجة ضمن مقاصد الشريعة، ويلاحظ أن كثيرا من المفاهيم المتداولة في الخطاب الثقافي العالمي لم تأخذ حقها من النظر والبحث والتأصيل والمراجعة في الخطاب الإسلامي، خاصة تلك المفاهيم والمعاني ذات الجذور العميقة والمتأصلة في نصوص الوحي، فالقرآن الكريم هو المصدر الأول لتأصيل المقاصد الإنسانية المشتركة التي تؤسس لمفهوم المشترك الإنساني، يقول “الشاطبي”: “إن الكتاب قد تقرر أنه كُلّية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه، وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه؛ لأنه معلوم من دين الأمة”.
والحقيقة أن البحث في المشتركات الإنسانية يقع في دائرة خصائص رسالة الإسلام لأنها رسالة عالمية، للبشرية جميعا، والمشترك الإنساني: هو مجموع الأفكار والتصورات، والمبادئ، والمفاهيم، والسلوكيات التي يتفق أو يتوافق ويتواطأ غالبية الناس على القول بها فطرة وعقلًا واجتماعًا، وما يترتب عليها من حقوق وواجبات، ومن ثم فالمرجعية المشتركة في تشكيل ذلك المفهوم، هي: الفطرة، والعقل الصحيح، والمصلحة الاجتماعية التي يجتمع الناس عليها لتدبير شؤونهم واختلافهم، لكن هذا لايعني القضاء على الخصوصيات الثقافية.
وهناك ثلاثة أسس كبرى للمشترك الإنساني، وهي: الاشتراك في الخلق والوجود، الاشتراك في القيم والمبادئ الكلية العليا، الاشتراك في المصالح الدنيوية، المادية والمعنوية.
والإنسان في النظر المقاصدي هو مركز المصلحة، وليس مركز الكون كما في أطروحة الأنسنة المغالية في المادية والذاتية الفردانية، يقول “علال الفاسي”: “الذي لا شك فيه أن الشريعة الإسلامية مبنية على مراعاة المصلحة العامة في كل ما يرجع للمعاملات الإنسانية؛ لأن غايتها هي تحقيق السعادة الدنيوية والأخروية لسكان البسيطة.
التكامل المعرفي
التكامل المعرفي في تراث الحضارة الإسلامية يتلقى استمداده من الوحي والوحدانية، فالتفكيك الذي عرفه الإنسان المعاصر أفقده القدرة على القراءة الكونية والشمولية للعالم الإنسان.
كانت غاية التكامل المعرفي هي خدمة النص القرآني وفهمه تقربًا إلى الله، وكان استحضار المصير وما بعد الموت من العناصر الرئيسة في توجيه العلوم وتأسيسها، فالعلوم وجدت لخدمة الدين، ولعل حديث العلماء على التقسيم الثنائي بين علوم الآلة وعلوم الغاية، وبين علوم الرواية وعلوم الدراية لخير دليل على وحدة المصدر والوسائل والغايات، رغم التقسيم الوظيفي بين بعض العلوم، الذي كان صورة من صور الازدهار الحضاري والعلمي.
ووحدة المصدر، ووحدة الغاية والهدف وحركة العلم عبر التاريخ كانت متداخلة إلى حدود الاتحاد، وكانت التخصصات متعاونة، فتداخل المعارف ليس مجرد لقاء عابر بين مختصين في حقول معرفية متنوعة، ولكنه عملية دمج مسالك المعرفة في مسلك واحد متداخل، يوفر القدرة على التفسير الكلي للكون، ويرتبط التكامل المعرفي بالرؤية الإسلامية للعالم، والتي مكنت العقل المسلم من تطوير الفهم السليم للكون والحياة والإنسان، ومن دوفعها الإجابة عن الأسئلة الوجودية والمعرفية والقيمية بخصوص هذه الحقائق والعلاقات بينها.
وكان “عبد القدر الجرجاني” نموذجا للتكامل بين علمي النحو والبلاغة، وهو ما تجلى في كتابه “دلائل الإعجاز” حيث أدرك “الجرجاني” تكاملية العلاقة بين وظيفة علمي النحو والبلاغة، فسعى للمزج بين الوظيفتين، فنتج عنه نحو بلاغي جعله القلب النابض لنظريته في النظم، إذ لم يوظف النحو بالمفهوم الذي انتهى إلى عصره، وإنما سعى إلى ربطه بالمقامات ومقتضيات الأحوال، وبأغراض المتكلمين، وهذه الأمور هي ما تبحث فيه البلاغة، مما أعطى ذلك النحو الذي وظفه كسوة بلاغية فنية تأثيرية.