اشتهر الشيخ مصطفى عبد الرازق (1885م- 1947م)، وعن حق، بأنه رائد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث؛ فهو رحمه الله لم يكن أول من تولى تدريس الفلسفة الإسلامية بالجامعة المصرية فحسب، بعد جيل من المستشرقين كان يقوم بهذه المهمة، وإنما كان له الفضل في تصحيح مسار النظر إليها، وفي رد دعاوى المستشرقين بشأنها؛ مما كشف عن أصالة النظر الفلسفي في الفكر الإسلامي، وعلى نحو لم يكن معروفًا من قبل.

وبجانب هذا، فالشيخ رحمه الله، كان يتمتع ببيان مشرق، وله أسلوب بديع في الكتابة والوصف، وفي تدوين المشاهدات والخواطر، وفي النقد الاجتماعي.. وهذه جوانب من تراث الشيخ لم تنل حظها من العناية؛ لأن الاهتمام انصب بالدرجة الكبرى على تراثه الفلسفي.

ولهذا، رأيت أن أسجل هذه اللمحات التي ربما تكون حافزة لتتبع أسلوب مصطفى عبد الرازق الأدبي الرائق، ولبيان آرائه في غير ما اشتُهر به وعُرف عنه.. خاصة أنه ترك مذكرات على هيئة مقالات مجزأة ضمن ما أسماه: (صفحات من سفر الحياة، ومذكرات مسافر، ومذكرات مقيم). وقد نشرها أخوه الشيخ علي عبد الرازق ضمن كتابه (من آثار مصطفي عبد الرازق)، ثم أعاد نشرها مؤخرًا د. أحمد زكريا الشلق في كتاب منفصل بعنوان (الشيخ مصطفى عبد الرازق ومذكراته)، وقدم له تقديمًا ضافيًا.

ويمكن القول: من أراد أن يتعرف على مصطفى عبد الرازق مفكرًا وفيلسوفًا فليقرأ له (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية)؛ ومن أراد أن يطالع وجهه الأدبي المشرق فليقرأ (مذكراته)؛ ومن أراد أن يكشف عن قدرته النقدية فليقرأ مثلاً مقاله (بين الشرق والغرب) بمجلة (الرسالة)، الذي رد به على إسماعيل أدهم، أو بالأحرى: رد به على ما كان يروجه الغرب عن الشرق([1])!

فإلى هذه اللمحات المتفرقة من آراء الشيخ مصطفى عبد الرازق:

فوائد السفر

“للأسفار فائدتها في تكميل المعارف وتزكية الفطر. ولعل أحوج الناس إلى الانتفاع من الأسفار في إنضاج مواهبهم الكامنة، أولئك الأفراد المتفوقون بِفِطَرهم، الذين تعجز الأوساط التي نشأوا فيها عن أن تسير بهم إلى ما استعدوا له من الكمال”([2]).

الإفادة مما لدى الآخرين

“لا غنى لنا، في الكمال المدني الذي ننشده، عن الاستفادة من الأمم التي سبقتنا في ميدان الرقي، وأن الشرق والغرب هما شطرا الإنسانية؛ فمن سعى بينهما في الفتنة كان عاقًّا، جانيًا على الإنسانية.. إنما نحن مصلحون نمهد للمودة والقربى بين شعوب البشر كلها”.

دور المرأة في المجتمع

تحدث الشيخ عن مجلس به رجال ونساء، ودار فيه الحديث عن دور المرأة، فقال: “كان في السيدات من يرى ميدان البر أولى بالمرأة من كل ميدان، وأجدى على بني الإنسان. وإني وإن كنت أشتهى أن أرى في كراسي الحكم وجوهًا يترقرق دماء الحسن في جنباتها.. فإنني أتمنى أن ينصرف النشاط النسائي إلى عمل البر، والدعوة إلى الخير؛ فقد فشا الشر في بني آدم، فلم يبق للإنسانية إلا أن تولي وجهها شطر بنات حواء، تبتغي الخير من حسان الوجوه”.

التجديد في التأليف

“نحن أقل الأمم قراءة واطلاعًا، يستوي في ذلك جاهلنا وعالمنا.. وواجبنا أن نعمل على ترغيب الناس في الاطلاع، ونزيل كل ما من شأنه أن يجعل المطالعة مملة؛ ففي تأليف كتبنا وفي ترتيبها وأساليبها عيوب تبعث إلى نفس قارئها فتورًا، وتضعف من نشاطه”.

غلبة النزعة اللفظية في الكتابة

“هذا العيب الكتابي شائع عند قومنا، حتى لتجد بين الأذكياء منا من يرى قيمة البلاغة في اختيار الألفاظ. وكنت أنا في حداثتي بالرغم مني أجري في هذا التيار، أنظر إلى ديباجة القول قبل أن أمتحن معانيه، ثم ارتقى ذوقي الإنشائي قليلاً فصرت أشعر أن الجمال اللفظي ليس إلا زينة لحسن المعاني، ودخل في أمانيَّ العلمية أن أعدل ذوق قومي من هذه الجهة؛ فإن عناية المنشئين منا باللفظ دون المعنى جعلت اسم الكاتب والشاعر منطبقًا على أناس لا رقيَّ في معلوماتهم ولا أفكارهم ولا خيالهم ولا أحاسيسهم؛ وهذا ضار بحركتنا الأدبية”.

التروي في التجديد مع عدم القعود عن مسايرة النهوض

“قد يكون من خير الأمم- لأول نزوعها إلى الرقي في الميعة الأولى- أن يتجاذب حماستَها للتجديد بطءٌ من جانب القديم يحفظها من خطر التقحم؛ ولكن إسراف بعض مرافق العمران في القعود عن مسايرة الناهض من شئون الحياة يضر بتلك المرافق ضررًا يصل إلى الحياة الاجتماعية كلها”.

الإسلام يجمع بين العقيدة والشريعة مع الاجتهاد

“إن الإسلام جمع بين الدين والشريعة؛ أما الدين فقد استوفاه الله كله في كتابه الكريم، ولم يَكِل الناس إلى عقولهم في شيء منه؛ وأما الشريعة فقد استوفى أصولها ثم ترك للنظر الاجتهادي تفاصيلها”.

بداية النظر العقلي عند المسلمين

“الاجتهاد بالرأي في الأحكام الشرعية هو أول ما نبت من النظر العقلي عند المسلمين. وقد نما وترعرع في رعاية القرآن وبسبب من الدين. ونشأت منه المذاهب الفقهية، وأينع في جنباته علمٌ فلسفي هو علم “أصول الفقه“، ونبت في تربته “التصوف” أيضًا؛ وذلك من قبل أن تفعل الفلسفة اليونانية فِعْلَها في توجيه النظر العقلي عند المسلمين إلى البحث فيما وراء الطبيعة والإلهيات على أنحاء خاصة. والباحث في تاريخ الفلسفة يجب عليه أولاً أن يدرس الاجتهاد بالرأي منذ نشأته الساذجة إلى أن صار نَسَقًا من أساليب البحث العلمي، له أصوله وقواعده”([3]).

مجالات الفلسفة الإسلامية

“وعندي أنه إذا كان لعلم الكلام ولعلم التصوف من الصلة بالفلسفة ما يسوِّغ جعل اللفظ [الفلسفة الإسلامية] شاملاً لهما، فإن علم أصول الفقه المسمى أيضًا علم أصول الأحكام، ليس ضعيف الصلة بالفلسفة، ومباحث أصول الفقه تكاد تكون في جملتها من جنس المباحث التي يتناولها علم أصول العقائد الذي هو علم الكلام؛ بل إنك لترى في كتب أصول الفقه أبحاثاً يسمّونها “مبادئ كلامية” هي من مباحث علم الكلام. وأظن أنّ التوسع في دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية سينتهي إلى ضمّ هذا العلم إلى شعبها”([4]).


([1]) المقال نُشر بمجلة “الرسالة” على جزءين، بإمضاء: باحث فاضل. في العددين 276، 277، بتاريخ: 17، 24 أكتوبر 1938م. ثم أعاد نشرهما د. عصمت نصار ضمن (الأعمال الكاملة) للشيخ، في أربعة أجزاء.

1 – (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا)

2 – (أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)

3 – (وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ)

4 – (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)

هذه آيات بينات اعتقدها المسلم لا بالسيف ولا بغيره، ولم تدخل في معتقده عن طريق العاطفة والمسايرة، بل دخلت عن طريق العقل فقط. ألا ترى أن في كل حرف فيها دعوة صريحة إلى التفكير في مخلوقات الله؟ ولماذا دعاهم إلى هذا التفكير؟ ليعتقدوا بعظمة الله أم يهتدوا بوجوده؟ لاشك بأن للاهتداء إلى الوجود؛ لأن التعظيم يكون لشيء يعتقد بوجوده وهم لم يعتقدوا بعد ذلك.

سمح لهم بالشك في كل شيء، والتفكير في كل شيء، ودعاهم إلى تحرير عقولهم من قيود العبودية الزمنية. وبعد، ألا تعتبر هذه الدعوة أساسًا عمليًّا، لأن استعمال العقل في التفكير في مخلوقات الله هو الأسلوب العلمي بعينه. أفيكون اليونان أصحاب الفضل في ذلك فيأخذ عنهم فلاسفة المسلمين هذا الجانب العلمي، أم يكون الدين الإسلامي هو الأصل الأول لهم؟ لا يكون اليونان وفلاسفتهم أصحاب هذا الفضل إلا إذا أخذ القرآن بأساليب الفكر اليونان، أو إلا إذا اعتبر متكلمة المسلمين وفلاسفتهم فلسفة اليونانيين مصدرًا أوليًّا في معتقدهم وكان القرآن مصدرًا ثانويًّا، والحقيقة تكذب هذا وذاك. وهم ما استعانوا بالفلسفة اليونانية إلا بعد أن تشربت قلوبهم معتقدهم الديني، وما كانت لهم الفلسفة إلا أداة منطقية لا علمية، والمنطق غير العلم إلا إذا امتزجا (قبل أيام)”.

([2]) الشيخ مصطفى عبد الرازق ومذكراته، د. أحمد زكريا الشلق، ص: 25، الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية. وجميع النقول من هذا الكتاب ومقدمته، إلا ما ذكرت مصدره في الهامش.

([3]) تمهيد لتاريخ الفلسفة، مصطفى عبد الرازق، ص: 129، مكتبة الأسرة، 2007م.

([4]) المصدر نفسه، ص: 31.