يكاد يجمع الباحثون على فضل ابن خلدون في توجيه مسار الدرس التاريخي إلى الوجهة التي استقر عليها في الدراسات الحديثة؛ وذلك من زاويتين.
الأولى: ما قرره ابن خلدون من أن التاريخ “علم”؛ وليس مجرد روايات يتناقلها الناس للتفكّه في المجالس، والتندّر بالوقائع والغرائب، بحيث “تطرف بها الأندية إذا غصّها الاحتفال” كما قال.
الثانية: أن التاريخ له “دراية”- أي فلسفة- بمثل ما أنه بالأساس “رواية”؛ وبتعبير ابن خلدون فالتاريخ له “ظاهر” و”باطن”؛ وهو “في (ظاهره) لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصّها الاحتفال… وفي (باطنه) نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق؛ فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعدّ في علومها وخليق”([1]).
صحيح أن ثمة جهودًا قبل ابن خلدون حاولت أن تدفع بالدرس التاريخي نحو أفق أوسع من مجرد كونه روايات متناقَلة؛ مثل جهود ابن حزم([2]). الذي أوضح لنا بأن من فوائد التاريخ: “الوقوف على فناء الممالك، وخراب البلاد المعمورة، ودثور المدائن المشهورة التي طالما حُصنت وأحكمت مبانيها، وذهاب من كان فيها وانقطاعهم، وتقلّب الدنيا بأهلها، وذهاب الملوك الذين قتلوا النفوس وظلموا الناس واستكثروا من الأموال والجيوش والعدد ليستديموها لهم ولأعقابهم، فما دامت لهم، بل ذهبوا وانقطعت آثارهم، ورحل بنوهم وضاعوا، وبقي ما تحملوا من الآثام والذم والذكر القبيح لازمًا لأرواحهم في المعاد، ولذكرهم في الدنيا”([3]).. لكن إسهامات ابن خلدون كانت محطة فاصلة في ذلك، يؤرَّخ بها، ويميَّز بها ما بعدها عما قبلها.
وإذا ضممنا هذه الجهودَ الرائدة، إلى ما سبق أن قرره القرآن الكريم في مواضع كثيرة عن أهمية التاريخ والاتعاظ بسننه، والتحذير من الغفلة عن عِبَره ودروسه؛ وذلك في مثل قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (آل عمران: 137).. وما قرره القرآن أيضًا من “دروس عملية” عن التاريخ تمثَّلت فيما قصَّه علينا من قصص الأنبياء مع أقوامهم: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ} (يوسف: 111).
إذا ضممنا ذلك كلَّه بعضه إلى البعض، فإن سؤالاً مهمًّا يستدعي نفسَه هنا، وهو: لماذا غاب عنا درس التاريخ؟ ولماذا بدت ذاكرة الأمة وكأنها فارغة “حديثة الصنع” لم تعمل ماكينتها بعد!
وقبل أن نتطرق لهذا السؤال المؤلم، نشير أولاً إلى ما يبدو من شواهد على عدم حضور الدرس التاريخي في ذاكراتنا على النحو المطلوب.
لقد حذرنا الله تعالى من التفرق والاختلاف والتنازع، وبيَّن أن هذا يُذهب بالقوة، ويضعف الصف: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46). ودلنا درس التاريخ على أن التفرق والتنازع يتيحان لمن يتربص بالأمة أن يَنفُذَ إلى صفِّها، ويضعف وحدتها، ويُمكِّن لنفسه بما لم يكن يستطيعه لولا هذا التفرق والتنازع؛ كما حدث في تجربة الأندلس حين تمزقت إلى دويلات وأخذ بعضُها يستعين بملوك الفرنجة على بعض؛ فضاعت الأندلس جميعًا، كأن لم تكن بالأمس!
فهل استوعبنا هذا الدرس، وعضضنا على وحدتنا بالنواجذ، وطرحنا عن أنفسنا أسباب الشقاق والاختلاف!
أيضًا، لم نستوعب درس التاريخ في التمسك بالهوية، وعدم الذوبان في الآخرين وتقليدهم تقليدًا أعمى، يكونون معه المثالَ والقدوة؛ دون الوقوف عند حد التفاعل معهم فيما يقبل التفاعل، والإفادة منهم بما لا يضيع هويتنا وخصوصيتنا.. مما حذر منه النبي ﷺ بقوله: “لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُم شِبْرًا بشبْر، وذراعًا بذراع، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْر ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ” (متفق عليه).
ولنأت الآن إلى السؤال: لماذا غاب عنا درس التاريخ؟
• إن أول ما يمكن رصده في هذا الصدد، هو أن التاريخ كعلم له أهميته وضرورته وفلسفته لم يأخذ في وعينا الجمعي مكانته اللائقة والواجبة.. فما زلنا نتعامل مع “ظاهر” التاريخ، ونتناقله حكاياتٍ للتندر والتفكه؛ ولم ندرسه بعد على النحو الذي يُدرَس به “العلم”، باحثين عن “باطنه” وسُننه وقوانينه.
بل حتى على المستوى الأكاديمي، تجزأ “علم التاريخ” إلى وحدات منفصلة وذَرِّية، على نحو أفقد التاريخَ وحدته الكلية ونظرته المتكاملة! فما بالنا بموقع ذلك من التكامل المطلوب في “التاريخ” مع بقية العلوم!!
• يضاف لذلك سبب ثانٍ، وهو أن البعض يظن نفسه بمنجاة عن سنن التاريخ، وبحصانة عن أن تطاله يد التهذيب!
لقد تجبّر فرعون بما لديه من سلطان، وعَمِيَ هامان بما معه من نفوذ، واغترّ قارون بما مُنح من ثروة؛ حتى جرت عليهم سنن التاريخ دون استثناء، ونَفَذَ فيهم عقاب الله.. ومع ذلك يظن كل ذي سلطان أو جاه أو مال، أنه بمنجاة عن المصير ذاته، وأن مصيره لا يمكن أن يكون مثل سابقيه.
نعم، قد لا تُعجَّل العقوبة في الدنيا، لأن عذاب الاستئصال والخسف قد رُفع بعد بعثة النبي محمد ﷺ- كما جاء في الحديث- لكن عقاب الآخرة مُتوعَّدٌ به.. وكفى به عقابًا لمن يريد أن يرتدع!
• وهناك سبب ثالث، وهو سبب يختص بغياب “أرشيف” واقعنا الحديث والمعاصر، خاصة في المحطات الفاصلة الرئيسة، حتى صارت الحقائق حصرية لدى أرشيف الدول الغربية.. وبالتالي، هناك محطات كثيرة معتمة لم يُفض خاتمها بعدُ، مما يسمح بتكرار الأخطاء، وعدم استيعاب الدرس التاريخي الواجب.
ويبقى أن أشير إلى أن حضور الدرس التاريخي ينبغي أن يكون على مستوى الأفراد أيضًا، وليس على مستوى المجتمعات فحسب كما قد يتبادر للأذهان.. بل لن يكون الدرس التاريخي فاعلاً على مستوى المجتمع إلا بعد أن يتحقق على مستوى الفرد؛ فيستفيد المرء من أخطائه، ويقلع عن عاداته الضارة، ويصبح يومه خيرًا من أمسه، ويتعدَّى نفعه للآخرين، ولا يعود إلى سابق أخطائه بعد إذ نجاها الله منها وسترها عليه..
([1]) مقدمة ابن خلدون ص: 1/ 282، تحقيق د. علي عبد الواحد وافي، مكتبة الأسرة 2006.
([2]) راجع المزيد في: ابن حزم الأندلسي وجهوده في البحث التاريخي والحضاري، لأستاذنا د. عبد الحليم عويس، الزهراء للإعلام العربي، ط2، 2000م. وقد عقد أستاذنا مقارنات رائعة كشفت عن تأثر ابن خلدون بابن حزم، ولو لم يشر ابن خلدون لذلك.
([3]) المصدر نفسه، ص: 127، 128.