اعتدنا على أن ننظر إلى العبادات المفروضة نظرة روحية – ومن بينها عبادة الصيام – تهتم بنصيب القلب فحسب من هذه العبادات! وهذه نظرة على أهميتها لا توفِّي تلك العبادات حقها من الفهم والتدبر، ومن الأثر والتزكِّي.

فالعبادات في الإسلام- وهي مفهوم أوسع من الشعائر المفروضة، من الصلاة والصيام والزكاة والحج- لها أبعاد كثيرة، تتصل بالقلب وبالعقل وبالجوارح.. وهي لهذا، لها تأثيرات تتجاوز حالة الخشوع التي ينبغي أن يكون عليها القلب وهو يقوم بهذه العبادات، إلى حالة من الفاعلية والوعي والسعي؛ أي ما يتصل بالجانب الحضاري الاجتماعي العمراني من هذه العبادات.

فالصيام مثلاً، عبادة جليلة القدر يمتنع فيها المرء عن بعض ما أحل الله في زمن محدد، بُغيىةَ تحصيل “التقوى“؛ أي استشعار معية الله تعالى بما يَحْجِز المرءَ عن المعصية، ويدفعه للطاعة، ويجعله يستشعر لذة الإيمان.

وهذه المعاني القلبية الإيمانية لعبادة الصيام، تتكامل معها المعاني الحضارية المتضمَّنة في هذه العبادة الجليلة؛ والتي قد لا يُلتفت إليها بمثل يما يكون الالتفات للمعاني القلبية الإيمانية.

ولعل هذه الغفلة ناتجة عن أن مفهوم “العبادة” أصابه انحسار جعلنا نُقصره على الشعائر، ولا نراه في الدائرة الأوسع؛ التي تشمل- مع الشعائر- مختلفَ جوانب سعي الإنسان في الحياة، متى استحضر النيةَ ولم يخالف الشرع: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 162، 163).

ويمكن أن نتلمَّس عبادة الصيام من زاوية حضارية في عدة مظاهر؛ منها: بناء الذات.. بناء المجتمع.. التذكير بقيمة التوازن.

بناء الذات

الإنسان لن يستطيع أن يؤدي مهمته في الحياة، من العبادة والعمران، ويكون ذا أثر وتأثير حضاري؛ إلا إذا امتلك ذاتًا قوية فاعلة، تتمتع بالإرادة النافذة، وبالقدرة على تحمل المشاق، وبامتلاك الشهوات والرغائب بحيث لا ينقاد إليها في غير ما يحل، بل حتى لا ينقاد إليها بإسرافٍ فيما يحل!

وهذه المعاني موجودة في عبادة الصيام؛ فهي تقوي عزيمة الإنسان، وتضبط له إرادته وتقويها، وتهذب له غرائزه وحاجاته، وتجعله يمتنع ليس عن المحرمات فحسب، بل عن بعض الحلال أيضًا.

ونحن نلاحظ هنا، في الامتناع عن الحلال، أن هذا الحلال يتصل بما به حياة النفس الإنسانية الفردية (الطعام والشراب)، وحياة النفس الإنسانية الجماعية (شهوة الجماع).. أي أن دائرة التهذيب واسعةٌ جدًّا وذاتُ رمزية مهمة.

والإنسان حين يصوم عليه أن يستحضر هذا المعنى من بناء الذات؛ بما يستلزمه من تقوية الإرادة، وتهذيب الشهوات والطباع، وضبط الميل والغرائز.. حتى يستمر معه هذا المعنى لما بعد رمضان، ويكون مؤثرًا في حياته بجوانبها المتعددة.

بناء المجتمع

ونتلمس هذا المظهر الحضاري- من مظاهر عبادة الصيام- فيما يتصل بـ آداب الصيام : من كفِّ الأذى عن الناس، ومن بَذْل الخير والمعونة مثملاً في “صدقة الفطر“.

فالصيام لا يجوز فيه الرفث والصخب ومقابلة العدوان بمثله، بما يُضعف نسيج المجتمع، ويفسح المجال لنزغات الشيطان: “إذا كان يومُ صَومِ أحَدِكم فلا يَرفُثْ، ولا يصخَبْ؛ فإن سابَّهَ أحدٌ، أو قاتَلَه؛ فلْيقُلْ: إنِّي امرؤٌ صائِمٌ” (متفق عليه من حديث أبي هريرة).

وهذا بُعد حضاري يتمثل في بناء المجتمع من خلال التخلية أولاً؛ أي كف الأذى بين أفراد المجتمع بعضهم البعض.. ثم من خلال التحلية ثانيًا؛ أي إشاعة قيم التراحم وبذل الخير والشعور بالمحتاجين، مما ترمز إليه “صدقة الفطر”.

و”صدقة الفطر” تحديدًا لها معنى مهم جدًّا، وهو أنها تعوِّد المسلم مهما كان فقيرًا على بذل الخير ولو مرة في العام.. فالحد الأدنى الواجب توافره فيها- وهو أن يمتلك المسلم قوته وقوت من يعول في ليلة العيد ويومه- يملكه تقريبًا كل المسلمين، إلا نسبة ضئيلة جدًّا.. بما يعني أن الفقير مطالَب بالعطاء ولو مرة واحدة في العام..

فإذا كُفَّ الأذى بين أبناء المجتمع، وشاع فيهم العطاء؛ كنا أمام مجتمع قوي البنيان، متراصِّ الصفوف، متآلف القلوب.. وهذه المعاني تغرسها وتحرسها عبادة الصيام.

التذكير بقيمة التوازن

الإنسان مركب من روح وجسد، وما أيسر أن يميل ناحية أحد هذين الأمرين مفرِّطًا في حق الآخر.. ولهذا نرى اتجاهات موغلة فيما يتصل بالروح، حتى لتشقّ على نفسها بما لا يفرضه شرع ولا يسيغه عقل؛ في مقابل اتجاهات أخرى تسرف فيما يتصل بالبدن حتى لترتد إلى أدنى من الحيوانات التي لا عقل لها ولا ضابط ولا حياء!

فتأتي عبادة الصيام- شهرًا من العام- لتذكِّر المسلم بصورة مكثَّفة بأن له روحًا لها متطلبات، بمثل ما إن له جسدًا له حقوق.

ومتطلبات الروح توجب التخفف من حاجات الجسد ولو في شطر من اليوم، أو في شهر من العام.. كما تدفع إلى الإكثار من التعبد والقيام والانشغال بالذكر والتسبيح وبالقرآن الكريم قراءةً وتدبرًا، وصولاً إلى الاعتكاف- وهو عزلة روحية وقلبية- في العشر الأواخر من الشهر الكريم.

وهذا التوازن بين متطلبات الروح وحاجات الجسد، هو من أهم الخصائص التي تميز رسالة الإسلام، وتجعلها رسالة خاتمة وللناس جميعًا؛ فلا إفراط ولا تفريط، ولا روحانية غالية ولا مادية مرتكسة! {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة: 143).

إذن، عبادة الصيام، مثل بقية العبادات، لها أبعاد تتجاوز المعاني القلبية الإيمانية، إلى المعاني الحضارية.. وهذه المعاني الحضارية من المهم إدراكها حتى نجعل من “العبادة” مفهومًا واسع الدلالة، ممتد الأثر: تزكيةً للنفس، وتقوية للمجتمع، وعمرانًا للأرض.. وحتى نقيم بذلك حضارة متوازنة لا تجنح للروح ولا تركن للمادة.