في حقيقة الأمر، هنالك علاقة جدلية عميقة وغامضة بين المعنى الديني والمعنى الاجتماعي التاريخي للأمة في التكوين النفسي الثقافي الذي تحمله المجتمعات العربية من تاريخها الطويل، القديم والحديث؛ فالمعنيان يتداخلان ويتساندان، بحيث إن ما يفتقر إليه المعنى الديني من تجاوب وتطابق في الواقع القائم يوفره بشكل ما المعنى الاجتماعي التاريخي، وإن ما يفتقر إليه هذا الأخير من عمق تراثي ودفع صوفي يقدمه المعنى الديني بشكل صريح أو ضمني. من هنا، الغنى الهائل المخزون في لفظة الأمة، وأهمية تحليل المعاني المختلفة المنعقدة فيها، وخاصة في النص القرآني نفسه.
ولكن دراسة مفهوم الأمة في القرآن تواجه صعوبات مختلفة عن تلك التي تواجهها دراسة المفهوم نفسه في مؤلفات فلاسفة ومؤرخي القرون الوسطى العربية الإسلامية. وأولى تلك الصعوبات خلو النص القرآني من أي تعريف لمعنى لفظة الأمة. وفي الواقع أدرك مفسرو القرآن هذه الصعوبة وعالجوها بطريقة التأويل، لكن هذه الطريقة غير صارمة، فلا تزيل جميع الإبهامات والالتباسات التي تلازم استعمال لفظة الأمة في كثير من آيات القرآن، وهذا يعني أن باب التأويل والاجتهاد غير مقفل أمام العلماء، وأن الوعي الاجتماعي النظري يفيد كثيرا من استذكار تحليلي للمرحلة القرآنية في تاريخ فكرة الأمة.
وردت لفظة الأمة في آيات القرآن، بصيغة المفرد، أكثر من خمسين مرة. ومن الآيات المشهورة التي يرددها المسلمون ويستشهدون بها في مناسبات كثيرة من حياتهم الدينية والمدنية هذه الآيات: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ}.
ولم يرد في النص الظاهر ما يمكن اعتباره وصفا حصريا أو تعريفا لمعنى اللفظة، إلا أنه من الثابت أن اللفظة لا تحمل معنى واحدا حيثما وردت في القرآن. وليس في ذلك أي سبب للغرابة؛ فالاشتراك في اللفظ ظاهرة تعرفها كل اللغات، وإن كانت في اللغة بين معنيين حقيقيين تامين أو أكثر والاشتراك بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، والاشتراك في اللفظ بين المعنى الحقيقي والمعنى الشرعي، فما هي المعاني التي تحملها لفظة الأمة في القرآن؟.
اعتمادا على اجتهادات المفسرين القدماء، ودون الدخول في التفاصيل التاريخية لنزول الآيات القرآنية في المرحلة المكية التي يغلب عليها طابع التنزيل الأخروي، وفي المرحلة المدنية التي يغلب عليها طابع التنزيل التشريعي، يمكن تمييز خمسة أو ستة معان لكلمة أمة في مختلف آيات القرآن:
أولاً: تعني كلمة أمة الوقت والحين، كما في الآيتين التاليتين: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ}.
ثانيا: تعني كلمة أمة: الإمام الذي يعلم الخير ويهدي إلى الطريق الصحيح، كما في الآية التالية: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
ثالثا: تعني كلمة أمة الطريقة المتبعة، كما في الآية التالية: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ}.
رابعا: تعني كلمة أمة: جماعة من الناس على الإطلاق، كما في الآية: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ}، أو في الآية: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ} وهذا المعنى ينطبق على عدد كبير من الآيات التي وردت فيها لفظة الأمة.
خامسا: تعني كلمة أمة: الجماعة المتفقة على دين واحد. والآيات التي تثبت ذلك كثيرة {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}، {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ}، {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}، {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم}. ويعتقد الطبري أن هذا هو المعنى الأصلي لكلمة أمة، مع أنه يقبل تفسير الأمة في بعض المواضع كمرادف للجماعة من الناس أو للصنف من الناس.
سادسا: تعني كلمة أمة: جماعة جزئية من أهل دين معين، كما في الآية التالية: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، أو في الآية: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا}. ففي الآية الأولى، تعني (من) في كلمة (منكم) التبعيض؛ إذ إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية لما يقتضيه من شروط غير متوفرة في جميع المؤمنين.
لقد شعر المفسرون بشيء من الحرج أمام آيات كهذه {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ}، {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ}، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ}. ومصدر الحرج من الناس صعّب تبيين من هم الرسل في جميع الأمم، وإذا كان محمد مرسلا إلى أمة واحدة، فكيف تتحدد هذه الأمم؟ وكيف التوفيق عند ذاك بين خصوصية الرسالة وشموليتها الإنسانية؟
وفي الحقيقة، لم يدرس المفسرون بصورة منهجية نظامية هذه الجوانب من معنى الأمة، ولم يتعمقوا في درس مفهوم الأمة مجردا عن مفهوم الطريقة أو الملة. لقد غلب على أذهانهم الارتباط القائم بين الجماعة والشريعة، فأهملوا الاهتمام النظري بماهية الأمة قبل ورود الشرع، إلا أنهم ميزوا في هذا السياق بين ما أسموه أمة الدعوة، وهي الأمة التي بعث فيها رسول، وما أسموه أمة الإجابة، وهي مجموع المؤمنين بذلك الرسول.
وإنه لمن الواضح أن لا تطابق بين أمة الدعوة وأمة الإجابة، فأمة الدعوة تتحدد بشيء آخر غير الإيمان، ويمكن أن يظل بينهم من لا يستجيب لدعوة الرسول نتيجة لمبدأ عدم الإكراه في الدين.
نستنتج من هذا كله أن التصور القرآني للأمة يقوم على جدلية بين الطريقة والجماعة، وأن الحل المعتمد لهذه الجدلية هو تصور الجماعة المتفقة على طريقة واحدة. وفي هذا الحل يتقدم معنى الطريقة على معنى الجماعة، بحيث إن الجماعة تصبح محددة ومعروفة بالطريقة التي تتبعها.
وقد تغلب في التصور القرآني للأمة معنى الوحدة في الاتجاه، أي الوحدة في العقيدة والطريقة، دون أن يغيب معنى الوحدة في المصدر، لسببين رئيسيين مترابطين: طبيعة الرسالة التي قام بها النبي محمد، وطبيعة العلاقات الاجتماعية السائدة في عصره. فالرسالة الجديدة تقتضي تكوين جماعة جديدة تكون الوحدة فيها قائمة على الإيمان بالعقيدة الجديدة وعلى ممارسة أحكامها ونظام قيمها.
وهذه الجماعة الجديدة لا تكون جديدة إلا بمقدار ما تتجاوز طبيعة العلاقة القبلية السائدة بين العرب. أليس مثيرا للتساؤل أن تكون كلمة قبيلة غير واردة سوى مرة واحدة وبصيغة الجمع في آيات القرآن؟ لا ريب في أن هذا الغياب دليل -من جملة أدلة- على إرادة حامل الرسالة الجديدة نقض نظام العلاقات الاجتماعية المبنية على وحدة النسب؛ أي نقض تصور الأمة المشترك مع تصور القبيلة.