لا يمكن بحال عزل مفهوم “المجتمع المدني” عن السياق التاريخي الذي نشأ فيه، ونقصد بالسياق التاريخي هنا: نشأة المفهوم داخل التشكيل الحضاري الغربي باعتبار المفهوم بلفظه والدلالات التي يحملها والمضمون الذي يحدده قد نشأ وتطوّر داخل هذا التشكيل بواقعه وصراعاته الاجتماعية والفكرية.

إن هذا التاريخ من شأنه أن يدلنا أولاً على الظروف التاريخية التي أحاطت بتشكيله وتشكله حتى استقر الحال على ما هو عليه الآن من طرحه “كقيمة مرجعية حاكمة” -أو ينبغي أن تحكم- حركة التطورات العالمية في علاقة المجتمع بالدولة وفي تحقيق النظام الديمقراطي.

كما أن إدراك هذا التاريخ من شأنه أن يوضح لنا ثانياً التضمينات الفلسفية التي تقف وراء المفهوم فتتلبس به ولا تنفك عنه، وهذا الإدراك من شأنه أن يساعدنا -نحن العرب والمسلمين- على تحديد أو بناء موقف أكثر تركيباً وعمقاً في النظر إلى مفهوم “المجتمع المدني” والتفاعل معه، وأخيراً فإن إدراك الظروف التاريخية التي أحاطت بنشأة المفهوم تساعدنا على بلورة وتحديد الملابسات التي يجب أن نعيها عند نقل هذا المفهوم -الذي نشأ داخل تشكيلة حضارية ما- إلى التشكيلة الحضارية للأمة بقيمها وفلسفتها ونظرتها للكون والحياة والإنسان.

مفهوم “المجتمع المدني” -في جذوره التاريخية- نشأ في إطار الصراع بين القديم والجديد في أوربا القرن السابع عشر والثامن عشر، أو بعبارة أخرى فقد نشأ المصطلح في إطار التخلص من “أزمنة العصور الوسطي”، وفي إعلان القطيعة مع النظام القديم جملة وتفصيلاً، والقبول بنظام جديد يقوم على أسس مختلفة ومخالفة، وقد التبس هذا الصراع بمعارك فكرية وأيديولوجية، كما ارتبط بقوى اجتماعية صاعدة وأخرى مندثرة، وقد تركت هذه المعارك آثارها على الأسس الفلسفية التي يتأسس عليها المفهوم -مفهوم المجتمع المدني- وينطلق منها، أهمها:

الصراع: والصراع هنا ليس قاصراً على الصراع بين المجتمع والدولة، كما يحلو لبعض أنصار المجتمع المدني أن يصوره، ولكنه صراع -أيضاً- بين الأفراد والتكوينات داخل “المجتمع” بغية تحقيق صالحهم الخاص، فالمجتمع المدني يعرف بأنه: “مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها”.
وإذا كانت نشأة مفهوم المجتمع المدني قد تمّت في إطار الصراع بين الأفراد لتحقيق مصالحهم الخاصة، فإنه أيضاً نشأ نتيجة الصراع بين الدولة والمجتمع المدني في أوربا، وفي ظل تطورات العلاقة التي قامت بينهما حين تكونت لدى الدولة إرادة السيطرة والاحتواء، وتكون في المجتمع نزوع نحو مزيد من الاستقلال والتمايز عن الدولة، ودعوة إلى التقليل من ثقل حضورها.

إن نشأة “الدولة القومية” في أوروبا ذات دلالة هامة في فهم الملابسات التي أحاطت ببروز مفهوم المجتمع المدني، فقد كانت الدولة سبيلاً أساسياً وأداة ناجعة في التخلص من العصور الوسطي والانتقال إلى العصور الحديثة. كانت “الدولة القومية” أداة توحيد للقوميات المتباينة والمنقسمة بشدة في أوروبا، كما كانت السبيل لتحقيق “السوق الواحدة” الذي يعد متطلباً أساسياً من متطلبات الانتقال من مرحلة الإقطاع إلى مرحلة الرأسمالية، لأنها -أي السوق الواحدة- سبيل تبادل السلع والخدمات بحرية كاملة، وما يرتبط بذلك من إنتاج كبير ووفير يسمح بهذا التبادل.

في هذا السياق ولتحقيق هذه الأغراض تغولت الدولة القومية في أوروبا، وزادت سطوتها على المجتمع حيث أنيط بها إنجاز كثير من المهام والأدوار لصالح بعض الفئات الاجتماعية الصاعدة وبخاصة الفئة الرأسمالية، وقد تأكد هذا التوسع في دور الدولة مع المرحلة الاستعمارية حين تحولت الدولة إلى أداة الاستعمار الغربي ووسيلته الأساسية.

كل هذه التطورات أدت إلى ميل الكفة لصالح الدولة على حساب المجتمع، ثم في تطور آخر كان لا بد للمجتمع أن يعود للتوازن بينه وبين الدولة، وهنا ملاحظة جديرة بالتأمل، وهي أن بعض دعاة المجتمع المدني في بلداننا يحلو لهم أن يروّجوا لأسطورة الفصل التام بين الدولة والمجتمع، أو الصراع الدائم والمستمر بين الاثنين، وهؤلاء يتناسون أو يتغافلون عن أن هذا الفصل ليس هو واقع الحال بين الطرفين في الغرب، ولم يكن كذلك في الماضي فالدولة والمجتمع نشآ متضافرين لتحقيق “مشروع الحداثة“، وفي إطار التحول عن القديم، وهذا لا يعني بالطبع عدم وجود قدر من الصراع بينهما، ولكنه صراع على حدود الفعل ومساحته، وليس على المقصد من وراء الفعل أو الغاية منه.

إن الصراع المتوهم بين المجتمع والدولة في واقعنا العربي والإسلامي من شأنه كما يروج بعض دعاة مفهوم “المجتمع المدني” أن يضعف كلاً منهما لصالح الخارج، وهذا هو خطورة نقل خبرة حضارية من واقع لواقع آخر دون إدراك خصوصياته وتوظيفاته في الواقع الجديد، ويجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن خبرة العلاقة بين المجتمع والدولة في الغرب أدت إلى إيجاد “اعتماد متبادل” بينهما لتحقيق مصالح وغايات الحضارة الغربية وأهدافها العليا.