لعبادة الحج جوانب عدة تسهم في بناء الفرد ودعم كيان الأمة؛ ولذا فهي عبادة متميزة وذات سمات متفردة، إذ تتجه إلى قطاع معين من مجتمع المسلمين هم أهل القدرة وأصحاب الاستطاعة وذوو السلطان من الناس، وهذا الأمر نصّت عليه بعبارة تحمل وجوه الإلزام؛ الآية الكريمة من سورة آل عمران “وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ” (آل عمران: آية 97)، كما جاء على هذا النحو حديث الأركان الخمسة وهو متفق عليه، ويقول فيه النبي الكريم -عليه الصلاة والسلام-: “بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا”.

وختام الآية يشير بوضوح إلى أن المَعنيين بهذه العبادة هم أهل الاستطاعة، إذ وصف إعراضهم عن هذه العبادة مع أهميتها لهم، وقدرتهم عليها بأنه لون من الجحود والكفران، والله سبحانه في غنى عن هؤلاء الذين تنكروا لفضل المنعم، وقعدوا عن الحج لبيته، وقد حرموا أنفسهم من خير عظيم.

إنها عبادة مئونة وكلفة، فهي تتطلب عطاء بالجسد، وعطاء بالمال، وعطاء وجدانيا لا يقدر بمال أو متاع، وفيها قدر كبير من المعاناة لا يطيقه إلا أولو العزم من الناس.. إنها تتطلب قدرا من الضبط والإخلاص والتفاني في سبيل من ابتغيت وجهه، وسعيت إلى بيته مستغفرا من ذنبك راجيا رضاه “الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ” (البقرة: آية 197).

والمردود العظيم لهذه العبادة وتأثيرها الواسع ينبغي أن يتجه لمن هم في أمسِّ الحاجة إليه؛ ولأن حجهم سيسهم في أداء الدور الريادي لهذه العبادة؛ فهو ينمي قدراتهم، ويوظف استطاعتهم وسلطانهم توظيفا يخدم أهداف الأمة، ويساعد على تنميتها، ويجعلها أكثر قدرة على حل مشاكلها ومراجعة ما يعترضها من عقبات وصعاب.

وللغنى والثروة تأثيرات سلوكية قد تدفع صاحبها إلى التعالي، ويشعر معها بالتميز، وللسلطان أبهته ورونقه الذي ينسي صاحبه بشريته، وقد يتناسى معه إنسانيته، ومن حول وطول ورجال أعوان قد تضعف فيتصور أن بيده مقاليد الأمور، فإذا حج هؤلاء وعاشوا مواقف هذه العبادة، وعانوا تجربتها المؤثرة فستنقذهم من سلبيات كثيرة تكتنف حياتهم، وتفسد وجدانهم وضمائرهم.

أما الإيجابيات فلها مع هذه الأنماط من الناس شأن أي شأن.

فما شأنهم عندما يعيشون مواقف الإحرام حيث التجرد من زينة الدنيا وزخرفها؟

وما ظنك بهم وقد أداروا ظهورهم لما كانوا يملكون من مال ومتاع، وما تحت سلطانهم من أولاد وأعوان، مقبلين بنفوسهم مجردة على ربهم يرجون رحمته، ويخشون عذابه ويسألونه من فضله في مواطن يحسن فيها السؤال، ويجمل فيها الدعاء.

أي تجربة تربوية مؤثرة عندما ترى أصحاب الجاه والسلطان يطوفون حول البيت في ضراعة لملك الملوك الغني ذي القوة المتين؟ إنه موقف ينسى المرء دنياه وما فيها ومن فيها، ولا يشغله إلا الولاء لمولاه الذي يجد الاعتزاز في إخلاص العبودية له.

كان سالم بن عبد الله بن عمر يطوف بالبيت ومعه في المطاف الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، وما إن وقعت عين الخليفة على حفيد الفاروق وهو من علماء عصره، ومن ذي الورع فيهم حتى سارع إليه ممسكا بيديه قائلا: “يا سالم، ألك حاجة؟”.

فبادره سالم بقوله: “والله يا أمير المؤمنين إني لأستحيي أن أسأل غير الله وأنا في بيته”.

ويتركه الخليفة حتى يفرغ من طوافه حتى إذا كان خارج المطاف، بعيدا عن البيت الحرام فأعاد القول عليه: “أليست لك حاجة أقضيها لك يا سالم؟” فعاجله بقوله: “إني لأستحيي أن أسأل غير الله وأنا ملكه”.

إنها لحظة يتسامى فيها الحجاج بتجردهم، صاحب السلطان يريد أن يكرم أهل العلم، وأهل العلم لا حاجة لهم في ذلك، والموقف الذي شهد حوارهم يؤكد أن كليهما سائل، والمسئول واحد لا شريك له، فماذا يملك أحدهما لصاحبه، ولِم أطلب من عبد مثلي، وفوقنا جميعا رب العباد يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، ويجعلكم خلفاء الأرض، وهو وحده خير مسئول وأعظم مأمول، تنحني له الجباه وتسجد الهامات؟ أليس أولو الأمر والغنى من الناس في حاجة لهذا الموقف العظيم بإيحاءاته وتأثيراته؟

انظر إليهم وهم يسعون بين الصفا والمروة، إن لسان حالهم في مسعاهم يؤكد لهم أنه لا ملجأ من الله إلا إليه، وأن منه سبحانه المبدأ، وإن إلى ربك المنتهى.

فحياتهم مع شعائر الحج ومناسكه تعزلهم أياما عن جاههم وسلطانهم وعن أموالهم وأعراض دنياهم؛ الأمر الذي يصون النفس من فتن الغرور، ومزالق الكبرياء، والاعتداد بالذات وبالتالي يكونون مصادر عون سخي، عطاء مؤثر لأمتهم ومن يلون أمرهم.

والموقف العظيم بعرفة، وهو جوهر هذه العبادة وعمادها هو موقف للكبار وذوي الشأن في هذه المهمة.

إنه اليوم الذي تذوب فيه الفروق، وتتلاشى فواصل الجنس واللغة واللون، ويهتف الجميع بلسان واحد لله الواحد القهار.

إنه يوم الإعلان العالمي الأول لحقوق الإنسان، كان ذلك في خطبة البلاغ التي ألقاها النبي –صلى الله عليه وسلم– في جمع الحجيج في حجة الوداع.

وهذا اليوم مع تجدد الزمان مؤتمر عالمي للمسلمين له تأثيره في حياتهم، وفي التعامل مع مشكلاتهم، وعلاقاتهم بغيرهم، ومَن لهذا المؤتمر غير الكبار من هذه الأمة من ذوي المال والإمكانات والسلطان؛ ليكون تحاورهم في هذا اليوم المقدس مثمرا، وليكون قرارهم حاسما.

لأجل هذا أعفى الله من هذه البعالة (المسؤولية) الفقراء والعاجزين من لا جهد لهم ولا طاقة؛ لأنهم ليسوا في حاجة إلى آثارها، ولأنهم بحجهم لن يحققوا نتائج ذات بال.

جاءت امرأة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في الطريق إلى حجه، وقالت: “يا رسول الله، إن أبي يريد الحج ولا يثبت على راحلته.. أفأحج عنه يا رسول الله؟ قال: حجي عن أبيك”.

وإذا ذهب إلى الحج من أعوزتهم الطاقة البدنية فلا بد أن يمتلكوا طاقة أخرى تجعل لحجهم أثرا، ويكون له مردود يدعم الغاية الكبرى لهذه العبادة.

ومنذ فُرضت هذه العبادة كانت قيادات الأمة المسلمة في عصور القوة والازدهار على رأس الحجيج.

فعندما فرض الحج في السنة التاسعة كان على رأس الحجيج أبو بكر، ولحق به علي ليذيع على الحجيج أخطر قرارات في تاريخ دولة الإسلام التي تضمنتها الآيات في سورة التوبة.

وفي السنة العاشرة كان على رأس الحجيج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتابع الخلفاء الراشدون من بعد حضور الموسم حتى كان الفاروق عمر يجعل من موسم الحج مؤتمرا على مستوى عال يناقش فيه قضايا الأمة، ويسأل الولاة عن الرعايا في أقاليمهم، ويحاسب المخطئ منهم على رؤوس الأشهاد حتى إذا انتهى الموسم عاد إلى عاصمة الإسلام وعنده تصور كامل للأمة بما يواجهها من مشكلات، وبما يتحقق في أطراف الدولة من كسب ونجاح.

وعلماء الأمة في المشارق والمغارب يحرصون على حضور الموسم، وقد يحلو لهم المقام فيؤثرون المجاورة، وفي الرحاب الطاهرة يصنفون الجديد والمفيد من معارف الإسلام وعلوم اللسان العربي، والرحالة المسلمون الذين شهدوا الموسم وصوروا انطباعاتهم ذكروا الأثر الكبير لموسم الحج في دعم مسيرة الأمة المسلمة؛ وذلك للمكانة الهادفة التي تحتلها الكثرة من الشخصيات الإسلامية التي جاءت من كل فج عميق يشهدون الموسم، ويبتغون منافع لهم ولأمتهم، ومن هؤلاء على سبيل المثال ابن بطوطة وابن جبير.

ويذكر المؤرخون أن الخليفة العباسي هارون الرشيد كان يحج سنة ويغزو أخرى فإذا حج حج معه مائة من العلماء ومعهم أبناؤهم، وإذا لم يحج أحج ثلاثمائة بالنفقة والكسوة.

وتبقى الحقيقة التي ينبغي لأمتنا المسلمة أن تدركها في ظروفها الراهنة وهي أننا في حاجة لمزيد من الاستثمار المفيد لهذه العبادة، كما فعل سلفنا الصالح.

إذا كانت عبادة الحج مؤتمر الأمة المسلمة الذي يتسامى عن شكليات المؤتمرات التي نعقدها وتتحقق المنافع المرجوة من الحج عندما يلتقي ولاة أمر الأمة في الأيام المباركة؛ ليتمكنوا من رفع الاضطهاد والبغي الذي يقع على الأقليات الإسلامية في أنحاء شتى من المعمورة، وإحلال الوئام بين الدول الإسلامية، وإعادة المودة لمن مزقهم الشقاق.

والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل.


أ.د السيد رزق الطويل