في ظل غبش الفكر واضمحلال الرؤى، وطنطنة المنتسبين للعلم زورا وبهتانا، تعظم مصيبة الأمة في موت عالم صاحب فهم قبل أن يكون صاحب علم، صاحب فقه قبل أن يكون حافظا، وهكذا كان فقيد العلم الشيخ عطية صقر رحمه الله.

العالم الفقيه، والأزهري صاحب النظرة الوسطية التي لا تفريط فيها ولا إفراط، والداعية الذي يدرك متى يشدد، ومتى يرخص، عالم بمقاصد الشريعة العليا، وقاف على حدود الله عز وجل.

إنه العالم الذي يجمع ولا يفرق، لكنه لا يقبل انحرافا عن شريعة الله، ولا تجاوزا لحدوده، يقف للعلمانيين بالمرصاد، ويعلن براءة الإسلام بشموليته ورحابة أفقه من أفكارهم.

وفي المقابل يظهر وجه الإسلام الجميل بعيدا عن تعصب فريق نصب نفسه بغير حق متحدثا باسمه، فيخرج أمثاله -رحمه الله- ليجلوا الحقيقة وليعلنوا أن الإسلام أرحب وأوسع من تلك النظرات الضيقة، وأن الفقه الإسلامي فيه من المرونة والسعة ما يسمح بتجاوز تلك الخلافات الضيقة.

سيرة ذاتية

ولد الشيخ عطية صقر في يوم الأحد 4محرم 1333هـ الموافق 22 نوفمبر 1914 في قرية بهناباي مركز الزقازيق بمحافظة الشرقية، حفظ القرآن الكريم في كتاب القرية وعمره 9 سنوات، ثم التحق بالمدرسة الأولية، والتحق بعدها بمعهد الزقازيق الديني عام 1928، ثم التحق بكلية أصول الدين وحصل منها على الشهادة العالمية سنة 1941، وحصل على العالمية مع إجازة الدعوة والإرشاد سنة 1943، وكان ترتيبه الأول.

بدأ حياته خطيبا في مسجد عبد الكريم الأحمدي بباب الشعرية في يوم الإثنين 15 من شهر شعبان سنة 1362هـ الموافق 16 أغسطس عام 1943، ثم عين واعظا بالأزهر بعد ذلك بعامين سنة 1945 حتى رقي إلى مفتش ومراقب عام بالوعظ.

عين سفيرا للأزهر في اللجنة العليا للعلاقات الخارجية بوزارة الخارجية، واللجنة الوزارية للتثقيف الصحي، ومترجما بمراقبة البحوث والثقافة، ووكيلا لإدارة البعوث، ومدرسا بالقسم العالي بالأزهر.

عين عضوا بمجمع البحوث الإسلامية ولجنة الفتوى بالأزهر ثم رئيسا لها، وعضوا بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وكان عضوا بمجلس الشعب عن دائرة شبرا، وذلك في سنة 1984.

وتعددت رحلات الشيخ رحمه الله لمختلف البلدان لنشر الدعوة الإسلامية، فسافر إلى إيران والكويت وإندونيسيا وليبيا والجزائر والبحرين والسنغال ونيجيريا وبنين والولايات المتحدة الأمريكية وباكستان وباريس ولندن.

للشيخ مؤلفات علمية مكتوبة تزيد على 31 مؤلفا علميا، يأتي على رأسها كتاب (الدعوة الإسلامية دعوة علمية)، وهو الكتاب الفائز بجائزة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وكتاب (الأسـرة تحت رعاية الإسلام) ويقـع في ستة مجلدات، وهناك كتب أخرى منها: كتاب (دراسات إسلامية لأهم القضايا المعاصرة)، وكتاب (الدين العالمي ومنهج الدعوة إليه)، وكـتاب (العـمل والعـمال في نظر الإسلام)، وكـتاب (الإسلام ومشاكل الحياة)، وكتاب (الحجاب وعمل المرأة)، وكتاب (البابية والبهائية تاريخا ومذهبا)، وكتاب (فن إلقاء الموعظة)، وكتاب (بيان للناس عن موقف الإسلام من التيارات الحديثة)، وكتاب (أوضح الكلام في الفتاوى والأحكام) وهو في عدة أجزاء.

وللشيخ عطية صقر رحمه الله إنتاج علمي مسموع  يزيد كثيرا في الكم على ذلك التراث المقروء، فلقد قدم فضيلته للأمة الإسلامية عبر وسائل الإعلام المسموعة والمرئية الكثير من الإنتاج العلمي في كافة فروع الشريعة، ولا يزال كثير من رواد الشبكة الإلكترونية يقبلون بنهم شديد على تراث الشيخ الصوتي، وبخاصة سلسلة فتاوى وأحكام في فقه العبادات، وسلسلة فقه الأسرة المسلمة، وقل أن تجد موقعا يعرض فتاوى إلا وللشيخ أثر واضح فيه، كما أن فضيلته حل ضيفا دائما ومرغوبا فيه على العديد من برامج الفتاوى عبر شبكة القرآن الكريم.

تقدير المذاهب الفقهية

وهذه من السمات البارزة لمدرسة الشيخ -رحمه الله- والمفتقدة في جمهرة كبيرة ممن يتصدون للفتوى، حيث تراهم يفتون وكأنهم أصحاب الرأي الأوحد في المسألة، يغضون الطرف عن مدارس ومذاهب لها اعتبارها فيما يتعرضون له، وهو ما يحدث تعصبا أعمى عند طلاب العلم الذين يأخذون عنهم، فتنشأ العداوات بين أصحاب المذاهب المختلفة.

لذلك فقد كان الشيخ رحمه الله يقدر تراث الأمة العلمي أيما تقدير، ويحترم شتى المدارس الفقهية احتراما شديدا، ولهذا ما كان فضيلته يتعرض لبيان أي حكم شرعي إلا ويبدأ ببيان آراء فقهاء الأمة في موضوع السؤال، وفي كثير من الأحيان يرجح فضيلته ما يطمئن إليه قلبه، وما يقوده إليه الدليل.

وأحيانا كان فضيلته يخير السائل بين أمرين أو أكثر من الفتاوى التي يرى أنها صحيحة واستقر عليها الفقه الإسلامي، ولعل بعض الناس كان يستغرب مثل هذا الصنيع لأنه يرى أن ما يشفي غليل السائل أن يأخذ جوابا مختصرا وشافيا، إلا أن هذا الصنيع يحمد للشيخ، فهو يحمل من أسس التربية والتعليم الكثير من المعاني، إذ ينبغي على من يكون في مركز الفتوى أولا أن يكون محيطا بكل ما قيل في القضية المطروحة للنقاش أو موضوع السؤال، ثم عليه ثانيا التأدب حتى مع المخالفين، ولم يكن من دأب الشيخ تسفيه رأي عالم قامت عليه بينة.

رحم الله الشيخ رحمة واسعة وعوض الأمة عنه خيرا.