يقول الله تعالى في كتابه الكريم: “وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُون” (سورة الأنبياء: 33). تدلنا هذه الآية الكريمة على حقيقة مهمة تتعلق بنظام الحركة في الكون، يبدو فيه الطواف سنة كونية، فيما يسهم العلم الحديث في تجلية هذه الحقيقة، وإلقاء الضوء عليها بعد أن أثبت أننا نعيش في كون فسيح تعتمد الحركة فيه على الدوران الذي هو أشبه بالطواف حول مركز معين.

الأرض تدور في فلك خاص بها حول الشمس مرة كل عام، والقمر يدور في فلك خاص به حول الأرض مرة كل شهر عربي، كما أن الكواكب الأخرى تدور في أفلاك خاصة بها حول الشمس، ومعظم هذه الكواكب لها أقمار تدور حولها، اكتشف العلماء منها أكثر من ستين قمرًا حتى الآن.

والمجموعة الشمسية التي ينتمي إليها كوكب الأرض تدور حول مركز مجرة “الطريق اللبني” أو “درب التبانة”، وهي تحتوي على نحو 130 بليون نجم. ومجموعة المجرات الكونية تدور جميعها حول مركز لا يعلمه إلا الله وحده.. وكأننا.. بهذا التصور العلمي لهيئة الكون.. نلفت الأنظار إلى الحركة الدورانية، أو الطواف، كسنة كونية تتجلى في الخلق كله.

وإذا انتقلنا إلى عالم المتناهيات في الصغر، نجد أن الذرة التي لم يرها أحد بعد بالعين المجردة ولا بأقوى المجاهر (الميكروسكوبات)، نجدها تتكون من نواة لا يزيد قطرها عن جزء واحد من مليون جزء من الملليمتر، ويدور حولها إلكترون أو أكثر في مدارات، أو أفلاك خاصة، وهذا يعني أن جميع ذرات المواد الصلبة، والسائلة، والغازية في هذا الكون تعمل فيها ظاهرة الطواف كسنة كونية. يدخل في ذلك جميع الذرات التي تؤلف أجسامنا، وطعامنا، وشرابنا، والهواء الذي نستنشقه، وكل كائن حي من نبات أو حيوان، وكل شيء مادي على الأرض من بحار، ورمال، وجبال، أو في السماء من نجوم، وكواكب، وأقمار، أو بين السماوات من غازات، ونيازك، وشهب، ومذنبات، وغيرها.

ولا يتخلف عالم الأحياء عن هذه السنة الكونية التي تدل على وحدة الكون ووحدانية الخالق سبحانه وتعالى، فقد كشف العلم الحديث من خلال تقنية المجاهر القوية أن السائل المعروف باسم “السيتوبلازم” في الخلية الحية يدور، أو يطوف، حول نواتها..

وأهم ما يجمع بين أنواع هذه الحركة في جميع حالاتها هو الدوران، أو الطواف، في عكس اتجاه عقرب الساعة.

وهكذا يتعدد الطائفون، سواء في حالة الإلكترونات حول نواة الذرة، أو حالة الكواكب حول الشمس، أو الأقمار حول الكواكب، أو النجوم حول مراكز المجرات، أو المجرات حول مركز لا نعرفه.. فالكل في هذا الكون يطوف.

وتتوجه بنا الفطرة النقية المؤمنة إلى صورة أخرى من صور الطواف جعلها الله جل وعلا من أهم مميزات الإسلام، وهو الطواف حول الكعبة المشرفة الذي يعتبر من شعائر الحج والعمرة.

والطواف حول الكعبة شعيرة تعبدية قد لا يدرك البعض حكمتها، لكنه طبقًا لحقائق العلم الحديث يرمز إلى سر عظيم من أسرار الكون يقوم على شهادة التوحيد الخالص لله تلبية للنداء الإلهي الذي أمر إبراهيم الخليل -عليه السلام- أن يؤذن في الناس بالحج، مصداقًا لقوله تعالى: “وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ” (سورة الحج: 26-27).

فكأن الكعبة المشرفة مركز للجاذبية الروحية التي ينبغي أن تكون بين العبد المؤمن وبيت الله العتيق. هذا البيت الذي يستقبله المسلمون ويتجهون إليه في صلاتهم خمس مرات على الأقل كل يوم وهم بعيدون عنه، وهذه الجاذبية الروحية هي القوة الخفية التي تجعل كل قادم يطوف حول الكعبة بمجرد الوصول إليها، تمامًا مثلما يطوف أي جِرم سماوي بمجرد وقوعه في أسر جاذبية جرم آخر أكبر منه.

ونلاحظ هنا أيضًا أن المسلمين يطوفون حول الكعبة المشرفة في عكس اتجاه حركة عقرب الساعة، حيث يكون القلب أقرب إلى مركز الجذب والطواف.. ونلاحظ هذا “التيامن” أيضًا في اتجاه الحركة عند السعي ذهابًا وإيابًا بين الصفا والمروة، الذي هو من شعائر الله.

وتدلنا هذه الرؤية الإيمانية الشاملة على أن الطواف سلوك كوني يشير إلى مظاهر الوحدة والتماثل بين التكاليف الشرعية ونواميس الظواهر الكونية؛ ولهذا كان شعار التلبية في الحج أثناء الطواف حول الكعبة هو النداء الناطق بالتوحيد: “لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك.. لا شريك لك”.

وهكذا نجد أن الكشوف العلمية التي يتوصل إليها الباحثون تدل بما لا يدع مجالاً للشك على أن الدين الإسلامي الحنيف هو دين الفطرة الإيمانية النقية الذي يقدم للإنسان رؤية صحيحة متكاملة تنسجم مع حقيقة الوجود الإلهي المهيمن على نواميس الكون، ومن هنا فإن شهادة أن “لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله” ينبغي أن تُفهم عقلاً قبل نطقها باللسان وإحساسها بالقلب، وذلك في إطارها الشامل من الفكر التوحيدي واليقين الإيماني الذي يجمع بين وحدة النظام في بناء الذرة وبناء المجموعة الشمسية، وبين وحدة الطاقة بردّها إلى أصل واحد وإن تعددت صورها، وبين وحدة الحركة في طواف الإلكترونات حول نواة الذرة، وطواف الأقمار حول الكواكب، وطواف الكواكب حول الشمس، وطواف السيتوبلازم حول نواة الخلية الحية، وطواف المسلمين حول الكعبة المشرفة.


أ.د.أحمد فؤاد باشا