لو أن هناك فرصة لإعادة النظر في تسميات بعض فروع العلم لكانت الجغرافيا على رأس هذه العلوم التي هي في حاجة ماسة إلى ذلك.. فلفظ الجغرافيا Geography لفظ إغريقي هو في الأصل geographica، مؤلف من شقين: أولها Geo ويعني الأرض، وثانيهما Graphica ويعني الوصف أو الصورة. فكيف نقيس المحيط الجغرافي والطبيعي؟
على هذا الأساس فالجغرافية هي “وصف الأرض أو صورتها” بصورة كلية. ومثل هذا المدلول قد يكون مقبولا عند التأريخ للإرهاصات الأولى لبزوغ العلم الذي كان تكوّن، ثم انبعثت منه عدة فروع صارت الآن علومًا مستقلة، فعندما نقرأ في كتب بعض الرحالة والجغرافيين العرب -مثل المقدسي وابن حوقل وابن جبير وغيرهم- عبارة تفيد بأنه زار مصر ووجد بها “نهرًا عظيم الفيضان، وهضابا عالية الارتفاع، وبقاعا سحيقة الانخفاض” ونحو ذلك.. كل هذا يمكن أن نتقبله من رجال ذلك الزمان، ولكن طبيعة ما يقوم به المشتغل بعلم الجغرافيا حاليًا، ومنذ فترة غير قصيرة جعلته ينتقل من مرحلة الوصف البحتة السابقة إلى مرحلة البحث عن السبب فيما تقع عليه عيناه، وترصده يده، وتسجله خرائطه؛ بمعنى آخر جعلته ينتقل من مرحلة الوصفية Descriptive Stage إلى مرحلة السببية Causal Stage، ومع هذه النقلة النوعية كان لا بد أن ينتقل علم الجغرافية برجالاته وأدواته إلى هذه المرحلة التي جعلته بالفعل يستحق أن ينسحب عليه لفظة “علم – Science”، فضلا عن انفتاحه على العلوم الاجتماعية التي تنشغل الآن بقضايا تحولات المساحة والمكان في ظل العولمة، وانتشار تقنيات الاتصال التي استلزمت إعادة التفكير في المكان، وعلاقته بالزمن وآثار اختصار المسافة على الأبنية والهياكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
لقد ظل الطابع الوصفي مفروضًا على الجغرافية حتى بدأت ثورة السببية تجتاح فروع العلم فنال الجغرافيا منها نصيب وكان ذلك على يد كل من الألمانيين ألكسندر همبولت Humbolt ومعاصره كارل ريتير K. Ritter، وقد أصبح هذا الأخير أول أستاذ للجغرافية كعلم مستقل في العالم، وكان ذلك بجامعة برلين، حيث اتجه أول الأمر نحو الجغرافيا ليضع منها أساسًا لدراسة التاريخ، إلا أن الجغرافيا استهوته واحتوته، فما لبث أن انصرف إليها تمامًا، فنشر كتابه الأول “دراسة الأرض Erdkunde” الذي جعل منه أعظم جغرافي في عصره.
وكانت الجغرافيا تدرس مع علوم الفيزياء والجيولوجيا تارة، أو كموضوع في دراسة التاريخ والفلسفة تارة أخرى، أو بالطبع في كليات الحربية والعسكرية، خاصة فرع الطبوغرافية أي رسم الخرائط والمساحة، فعلم الجغرافيا كان وثيق الصلة بمخططات التوسع الاستعماري، ولطالما استخدمت الجغرافيا كأداة لتحقيق أغراض سياسية، ومنذ بدأت حركة الكشف الجغرافي في نهاية القرن الخامس عشر (1493) كانت الجغرافيا مسخرة لخدمة هذا الغرض حتى أصبحت وظيفة الجغرافيين عملية رسم الخرائط للأجزاء المعلومة (المعمورة) من العالم، ثم بعد ذلك إضافة المستعمرات الجديدة كأجزاء من معمور اليابس.
ولقد ظل اسم الجمعية الملكية الجغرافية البريطانية مرتبطًا بالكشف الجغرافي حتى صار الجغرافي مستكشفًا أو مساحًا، ومرة ثانية يسخر علم الجغرافيا لخدمة الأغراض التوسعية الاستعمارية، فرغم ما كان يشيع من روح علمية في رسم المصورات الجغرافية (الخرائط) التي قام بها علماء لا يستهدفون سوى المعرفة مثل مركيتور Mercator، فإن التسابق في رسم الخرائط والإعلان عن مناطق جديدة كان يعني ملكيتها واستعمارها، وهكذا ارتبط تقدم الجغرافيا بأغراض إستراتيجية.
ومع بداية حركة التوسع الهتلري التي أفرزت فيما أفرزت فرعًا جديدًا من فروع الجغرافيا هو الجيوبلوتيكا Geopolitics الذي كان يوظف الجغرافيا في إعداد الخرائط وتوفير قواعد البيانات عن الموارد الأرضية والبشرية بالجهات المستهدف التوسع فيها، وهذا يختلف تمامًا عن فرع الجغرافيا السياسية Political Geography -اختلافًا في الهدف والمضمون.
ويمكن القول: إن القرن التاسع عشر هو قرن التحولات في مفاهيم علم الجغرافيا سواء ما اختص العلم ذاته من قبل رجاله ومنظريه، أو ما أصاب العلوم وضروب المعرفة البشرية جميعها فنال علم الجغرافيا نصيبه من هذا كله.
ومن غير شك نال الجغرافيا الكثير من التطورات وربما التغيرات في ظل حركة التغير في الفكر الفلسفي على مدى زمن المعرفة البشرية. وفي هذا الصدد يرى العالم الجغرافي المصري د. محمد زهرة أن الاتجاهات التأثيرية والانطباعية كانت ذات أثر مهم في نشأة المدرسة الحتمية عند راتزل Ratzel والإمكانية عند فيدال دي لابلاش، أي أن الفكر الفلسفي كان له تأثير هام في تطور مرحلتين من أهم مراحل التطور الفكر الجغرافي خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر حتى نهاية الربع الأول من القرن العشرين.
وعلى هذا فليس مستغربا أن نجد مناهج الفكر الجغرافي الحديث تعتمد على الاتجاه التجريبي أو الوضعي أو حتى الوجودي، بل وتتبنى أفكارًا وأيدلوجيات مقابل تصورات جغرافية مثل نظرية ماركس عن ربط المجتمع النهري بالاستكانة والخضوع، أو الربط بين موقع دولة والدور السياسي الذي يمكن أن تلعبه، حتى قال الفيلسوف الفرنسي كوزان: “أعطوني خريطة بلد ما وأنا أتعهد بأن أدلكم مقدمًا على إنسان هذا البلد كيف سيكون وأي دور سيلعبه في التاريخ”، وهو خير تعبير عن الفكر الحتمي الذي تبناه الكثير من الفلاسفة والعلماء متأثرين بفكر تشارلز داروين Darwin 1858 وزميله ألفريد ولاس A. Wallas عن التطور العضوي والبقاء للأصلح، حيث اعتنق هذه الفكرة من الوجهة الجغرافية الألماني راتزل 1882 Ratzel، ومن بعده ديفيز Davis وسامبل Sambel وأخيراً هنتنجتون Huntington بالولايات المتحدة الأمريكية، وهي فكرة تتجاهل القدرات التقنية والعلمية التي سهلت لدول صغيرة محدودة الموارد -مثل اليابان- أن تؤثر باقتصادها في توازنات السياسة الدولية حتى أثيرت مؤخرًا فكرة ضمها لمجلس الأمن.
والحتمية البيئية من الناحية الجغرافية تعني ضرورة تكيف الإنسان مع محيطه الطبيعي حتى يكتب له البقاء.
ويمكن القول إن للحتمية البيئية من الوجهة الجغرافية أصولا أقدم تعود للحضارة الإغريقية، حيث وصف أبيقراط 420 ق.م سكان الجبال بأنهم ذوو قامات طويلة فارعة، وشجاعة وبأس، على عكس سكان الأراضي السهلية الذين يتسمون بالخنوع والضعف.
وقد تأثر العرب بالتراث الإغريقي، فنجد بعض الجغرافيين العرب يربط بين المناخ وخصائص السكان من الناحية البدنية والطباع والسلوك، وهو ما يمكن أخذه بحذر، لكن كثيرًا من ذلك الربط تغير مع تحولات الاقتصاد وتطورات العلم الحديث.
وعلى وجه العموم فإن سيطرة النظرية الحتمية على التفكير حالت دون تفسير الظاهرة الجغرافية التفسير الوافي الدقيق، فانتهت إلى أحكام سريعة فيها من البساطة والتكرار الكثير، ورغم ما أحاط بنظرية الحتم البيئي من تفنيد ونقد خلال العصر الحديث فإن هذا لا يعني انحسار هذا الفكر تمامًا أو عدم وجود منظرين لها، فلو كان الأمر كذلك لما ظهر لنا فرع جديد من فروع الجغرافيا الاجتماعية يعرف بجغرافية الجريمة Geography of Crime الذي يحاول الربط بين نوعيات ومستويات الجرائم والظروف البيئية لمرتكبيها على أساس اختلاف الظروف الجغرافية، إذن فلم يزل هناك قطاع من علماء الجغرافيا يدور في فلك الفكر الحتمي، الذي قد يؤدي لأحكام عنصرية على جنس أو شعب، حتى ولو لم يعترف الجغرافيون بذلك.
ويمكن اعتبار عام 1922 بداية الانتفاضة والثورة على الحتم البيئي، وذلك على يد الفرنسي بول فيدال دي لابلاش، خلال كتابه “مبادئ الجغرافيا البشرية”، ثم جاء كارل ساور Sawar في 1925، بالولايات المتحدة مؤسسًا لمدرسة جديدة مناهضة للحتم البيئي أطلق عليها مدرسة اللاندسكيب (هيئة الأرض) Landscape التي تهدف إلى أن الأرض وما بها من موارد ملك الإنسان، أي أن قيمتها تتحدد وفق حاجته لها واستغلاله إياها، بما يعني الحرية الكاملة للإنسان، ومناقضة مبدأ الحتم السابق.
وجملة القول في هذا الصدد إن الجغرافيا تأثرت بالحتم البيئي، ثم تحررت منه كما تأثرت وتحررت كذلك غيرها كثير من العلوم.
وقد اتفق الفيلسوف الألماني كانت Kant والجغرافيان هنتر Henter وهارتسهورن Hartshorn على أن هناك ثلاث طرق لدراسة الحقيقة، وتُعَدّ الجغرافيا أهم هذه الطرق على الإطلاق، أي أن بُعد المكان يكتسب أهمية معرفية ووجودية.
وفي واقع الأمر فإن صياغة تعريف للجغرافيا يحدد وضعها بين العلوم التجريبية والإنسانية ليس بالأمر اليسير، فمثلاً حين أراد روجر منتشل R. Mintsuli في أواخر الستينيات أن يحصر التعريفات التي صيغت بها الجغرافيا وجد ما يربو على اثني عشر تعريفًا (كان ذلك منذ نحو نصف قرن)، وهو ما يدل على عدم وجود حدود واضحة صارمة لمجال العلم وعدم وضوح -أو قل عدم الاتفاق على- غايات العلم وهدفه ومن ثم مكانته بين بقية العلوم. فإن كان بيرد Bird (1993) يرى أن الجغرافيا لا تنتمي للعلوم الطبيعية أو للفنون وإنما هو تخصص يجمع بينهما، فإن الفرنسي بياجه Piaget يرى أن الجغرافيا كعلم يجب أن يتوارى ليفتح المجال لعلم جديد هو علم “المجال الجغرافي” L’espace بكل مكوناته المكانية والاجتماعية والنفسية.
إلا أن الأمر في النهاية يمكن إجماله في أن الجغرافيا تخصص مميز يدرس قضايا تقع اليوم في المنطقة البينية أو منطقة التداخل بين حقول الدراسة الاجتماعية والطبيعية Interdisciplinary فإن كان البعض لا يروقه أن يستخدم الجغرافي أدوات أصحاب التخصصات الأخرى فإن ذلك قد يعني -لقاء هذا- أن يحتكر الجغرافي استخدام الخريطة على تخصصه ليُحَرِّم على كل فروع العلم (الطبيعية والإنسانية) توظيف هذه الأداة الهامة، وفي نفس الوقت لا يتعجب البعض حينئذ أن تصبح “نظم المعلومات الجغرافية” Geographical Information Systems حكراً على الجغرافيين فتحرم بقية التخصصات من وسيلة وتقنية علمية دقيقة ذات نتائج دقيقة تحسب للجغرافيين، ويفيد منها غيرهم من أصحاب العديد من التخصصات الأخرى.
من الجغرافيا الوصفية للنظم البيئية المركبة
توازى تطور علم الجغرافيا مع تطور الفكر والممارسة في مجال قضايا البيئة ليتطور المنظور البيئي إلى علم مستقل له مفرداته وأدواته ولغته الخاصة التي تجمع بين الهموم البيئية والمعارف الجغرافية، مع الاستفادة من علوم حيوية مختلفة، فظهر ما يعرف بالنظم البيئية Ecosystems التي تعبر بالدرجة الأولى عن حالة من التميز لمجموعة مكونات إيكولوجية في حالة من الترابط والتفاعل بدرجة تميزها عما عداها من النظم الأخرى.
بدايةً لا بد من الاتفاق على أن لفظة نظام System أكبر من أن تكون مجرد تجميع لمفردات معينة إذ إنها عادة ما تعبر عن نسق لمكونات متنوعة ومتصلة مع بعضها البعض بروابط، وأن هناك اتساقا وتنظيما ثم تفاعلا بين هذه الظواهر، هذا رغم احتفاظ كل منها بخواصه المميزة له عن غيره.
فعلى سبيل المثال: نظام التعليم تعبير عن مجموعة من المكونات غير المتشابهة dissimilar components من مدارس ومعاهد وكليات جامعية، هذه المكونات مع تميزها فإنها ترتبط مع بعضها البعض برابط هو أداء الخدمة التعليمية وكل ذلك يتم في إطار من التنظيم يمثله عنصر الزمن (الفصول الدراسية) وما من شك أن هناك حالة من التفاعل بين هذه المكونات رغم تميز كل منها بسماته الخاصة.
ويمكننا القول إن علم البيئة Ecology هو معالجة جديدة لقضية قديمة إذ إن الإنسان منذ نشأته وهو في حالة تعامل وتفاعل مع ما يحيط به من مكونات حية وغير حية ويجتهد في سبيل تحقيق أقصى استفادة من هذه المكونات.
ووفقاً لطبيعة تراكم المعرفة البشرية فقد أصبح الإنسان في حاجة إلى وضع إطار معرفي يدرس من خلاله هذه المكونات والظروف المحيطة به، فظهر علم البيئة Ecology لينقل دراسة البيئة من الوصف الجغرافي إلى تقويم علاقة الإنسان بمحيطه الجغرافي وموارده الطبيعية وكذا مجاله الحيوي بما يكفل الحفاظ على هذه النظم لا تدميرها وحرمان الأجيال القادمة منها تحت ضغط الحسابات الاقتصادية النفعية الآنية والضيقة.
واشتقت لفظة إيكولوجى Ecology من التعبير اليوناني Oikos الذي يعني البيت أو المكان الذي يصلح للسكنى، ومن نفس الأصل اللغوي اشتقت كذلك كلمتا Economy & Economic.
فعلم البيئة في أبسط معانيه هو كما عرفه العالم الألماني هايكل Haikel Ernust في سنة 1870: “إننا بكلمة Ecology نعني الإطار المعرفي الذي يهتم باقتصاد الطبيعة، والبحث في مجموعة العلاقات الصادرة من جانب الحيوانات تجاه عناصر البيئة الحية وغير الحية”؛ لذا فإن البيئة ليست مفهوما ساكنا أو نمطيا، بل هناك -بحكم تعدد السياقات المكانية ومحيطه- أنظمة بيئية مختلفة ومتعددة، ومتجددة.
النظام الإيكولوجي إذًا هو تجمع حيوي من النباتات والحيوانات في إطار بيئة طبيعية أو مكان للحياة والعيش Habitat يمثل جزءاً من الطبيعة، في حين أن كلا من عناصر التربة والمناخ تمثل المكونات الخلفية الطبيعية لهذه البيئة.
وبناءً على ما تقدم فإنه يمكن أن نميز بين مكونين أساسيين لأي نظام بيئي، هما:
1 – مجموعة المكونات الحية Biotic components.
2 – مجموعة المكونات غير الحية Abiotic components.
وبالنسبة للمجموعة الأولى فإن النظام البيئي يتألف حيوياً من وحدات بيولوجية أكبرها المجتمعات Communities بحيث يعيش كل مجتمع في بيئة مناسبة له، وينقسم المجتمع إلى وحدات أصغر تعرف بالأنواع Species ينقسم كل نوع على أفراد Individual Organisms يتميز كل فرد فيها بطراز جيني وطراز شكلي مميز.
وأما المجموعة الثانية فإنها تتمثل في الغلاف الصخري والغلاف المائي والغلاف الغازي، يضاف إلى ذلك الطاقة الشمسية الواصلة إلينا من خارج النظام البيئي الأرضي.
مستويات النظم البيئية
بمقدورنا أن نميز مستويين أساسيين للنظم البيئية هما:
أولاً: المستوى العام أو الكوني
وداخله يمكن الإشارة إلى ثلاثة أنظمة بيئية هي:
- 1 – النظام البيئي القاري
- 2 – النظام البيئي للمياه العذبة
- 3 – النظام البيئي للمياه المالحة
ثانياً: المستوى التفصيلي:
وداخله يمكن أن تمييز أنظمة بيئية طبيعية وأخرى بشرية على النحو التالي:
1 – نظم بيئية طبيعية وهي النظم التي تعمل آلياتها دون تدخل من جانب الإنسان، وداخل هذه النظم أمكن الفصل بين:
أ – النظم البيئية الأرضية
ب – النظم البيئية المائية (عذبة – مالحة)
2 – النظم الاصطناعية : وهى تلك النظم التي يبرز فيها دور الإنسان من حيث نشأتها وإدارتها وبذلك فهي تشمل نظم المناطق الصناعية والزراعية وكذلك العمرانية.
وعلى هذا الأساس أصبح بمقدورنا أن نتصور أي وحدة مساحية مكانية كنظام بيئي له تلك المكونات؛ فقارة أفريقيا -على سبيل المثال- يمكن اعتبارها نظاما بيئيا له مكوناته الحية وغير الحية في الوقت الذي يمكن اعتبار ورقة الشجر نظاما بيئيا يحمل نفس المكونات الحية وغير الحية ويتم فيها تبادل العلاقات وتمييز مستويات من تدفق الطاقة والمادة.
فما مدى علاقة النظم البيئية ببعضها البعض؟
بناءً على السلوك أو التفاعل عبر الحدود بين النظم البيئية فإنه يمكن التمييز بين النظم الثلاثة التالية:
1 – النظام المعزول:
يتمثل هذا النوع في النظم التي لا يوجد تفاعل أو علاقات بينها وبين النظم الأخرى خارج حدودها، وهذه النظم يقتصر وجودها على المعامل والمختبرات فقط.
2 – النظام المقفل:
وفيه يمكن أن يحدث تبادل للطاقة عبر حدوده مع الأنظمة البيئية المحيطة به إلا أنه في نفس الوقت لا يتم أي تبادل للمادة بينه وبين غيره من النظم.
3 – النظام المفتوح:
وفيه تستطيع كل من المادة والطاقة الانتقال بحرية عبر حدوده بينه وبين غيره من النظم.
وكما سبقت الإشارة إلى أنه ليس هناك نظام بيئي مغلق في الطبيعة فإن هذا النمط لا يمكن وجوده أو إيجاده إلا داخل المعامل والمختبرات، فالنظم في غالبيتها مفتوحة.
بعد أن أصبحنا ننظر الآن إلى الأشياء بمنظار إيكولوجي فإنه يمكن أن نتصور أن ما نحيا فيه وما يحيط بنا هو مجموعات من النظم تنشأ بينها علاقات نتيجة تدفق مواد أو طاقة في صورة مدخلات Inputs ثم حدوث تفاعل بين هذه المدخلات مع المكونات الأصلية التي دخلت عليها وخروج نتاج هذا التفاعل في صورة مخرجات Outputs، وانطلاقاً من هذه الفكرة يمكن تمييز المستويات المختلفة من النظم البيئية.
الضغط السكاني على الموارد البيئة
لما كان هناك اتجاه متنام لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من الموارد المتاحة والبحث عن موارد جديدة لسد احتياجات السكان، فإن ذلك يمثل ضغطاً متزايداً على النظم البيئية؛ الأمر الذي يلفت النظر إلى مقولة إن بعض خطط التنمية التي لا تراعي توازن النظم البيئية تضر بالبيئة، وهو ما يعيدنا مرة أخرى إلى ذلك النزاع الدائر بين فريق الاقتصاديين الذي يضع الربح والخسارة كمعيار أساسي لأي نشاط بشري، وفريق المحافظين على البيئة الذي يرفع راية الحفاظ على المعطيات البيئية فوق أي اعتبار.
ولإيجاد حل يرضي الطرفين ظهر ما يعرف بدراسة تقييم الآثار البيئية (EIA) Environmental Impact Assessment والتي تهدف إلى تحديد ورصد الآثار التي يمكن التنبؤ بوقوعها سواءً أكانت آثارا سلبية أو إيجابية بالإضافة إلى دراسة البدائل والتدابير الخاصة بتخفيف وطأة الآثار السلبية وتدعيم الآثار الإيجابية.
ولعل منطقة الساحل الشمالي الغربي بمصر خير نموذج يمكن الحديث عنه كنظام بيئي كانت له كينونته المتميزة، يتمتع بمجموعة مكونات أحيائية (نباتية وحيوانية) خاصة به، بعضها كان فريدا على مستوى العالم، ولكن مع زيادة الضغط البشري على هذا النظام والانتهاء إلى إزالة الكثير من البيئات النباتية وإحلال الكتل الخرسانية محلها ليس لأغراض الإنتاج الزراعي أو حتى الصناعي بل لأغراض الاستثمار العقاري السياحي(!) كل ذلك مدعوماً بضغط على التربة والموارد المائية أدى في نهاية الأمر إلى حدوث مشكلة بيئية خطيرة ألا وهى ظاهرة التصحر Desertification التي تعد دليلا دامغا على سوء تعامل الإنسان مع البيئة وتجاهل الاعتبارات الإيكولوجية لصالح النهم للربح السريع في أصول غير منتجة بالمعنى التنموي الدقيق.
وفي نفس المجال طالما يعلن بين الحين والآخر عن مناطق محدودة أرضية أو مائية كمحميات طبيعية بهدف الحفاظ عليها وتجريم الإضرار بمكوناتها بغية الحفاظ على التنوع الحيوي الذي توليه كثير من الهيئات الإقليمية والدولية اهتماماً كبيراً.
فالتنوع الحيوي Biodiversity هو التباين فيما بين الكائنات الحية من كل المصادر (المائية والأرضية) ويشمل ذلك حتى التباين داخل النوع (التنوع الوراثي) وبين الأنواع (التنوع النوعي) وعلى مستوى المنظومات البيئية ككل (التنوع البيئي).
أما المحميات الطبيعية فهي تلك المساحات اليابسة أو المائية التي تعلنها الهيئات المنوطة بعناية البيئة كمناطق مصانة، ومحرم أي صورة من صور تدخل الإنسان فيها بما يتلفها أو لا يسمح لها بالعودة إلى حالة التوازن البيولوجي المرجوة.
ولعل بزوغ مصطلحات مثل التنوع الحيوي Bio Diversity والمحميات الطبيعية من الدلائل على الاهتمام الدولي والإقليمي بالبيئية كقضية أساسية، ولكن ما تجدر الإشارة إليه أن المشكلة ليست في الاهتمام على المستوى العلمي الأكاديمي فهذا حادث، ولكن العقبة تتمثل في إيجاد اتصال بين ما يتم في المختبرات وحجرات الدروس وما تفرزه سلوكيات الإنسان والشرائح الاجتماعية باختلاف مستويات وعيها ومستويات ثقافتها العامة من ناحية والبيئية من ناحية أخرى.
ورغم أن بداية علم الإيكولوجي كانت بداية بيولوجية أكثر من أي شيء فإن مجال هذا العلم أخذ يتسع ليتيح الفرصة لإضافة إسهامات الكثير من أصحاب التخصصات المختلفة سواءً كانت علوما تطبيقية أو علوما بحتة أو حتى دراسات إنسانية، ومنها علم الجغرافيا.
وقد كان للجغرافيين إسهاماتهم المعتبرة في هذا المجال منذ أن صاغ Haggett & Strahller تعريفات للإيكولوجي، إلى أن أصبح هناك فرع جغرافي خالص يهتم بدور العنصر البشري في البيئة الطبيعية، فظهر علم الجغرافيا البيئية Environmental Geography كمساحة وسيطة وصاعدة بين العلوم، تستحق منا اهتماماً أكبر في جامعات العالم الإسلامي.
لقد دعا الإسلام إلى الحفاظ على البيئة وحمايتها، والعدل في الاستفادة من مواردها، وجاء في الحديث الشريف الذي رواه البخاري أن “الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار” وهي إشارة واضحة لعدم استئثار مجموعة من البشر بالموارد واستنزافها دون أخذ نصيب غيرهم في الاعتبار، الأمر الذي اصطلح عليه حديثاً باسم التنمية المستدامة Sustanbale development.
كذلك حث الرسول ﷺ على الاقتصاد في تسخير الموارد للنفع الإنساني بل وعدم الإسراف في استهلاكها حتى في العبادات حين نهى سعداً عن السرف في ماء الوضوء ولو كان المسلم على نهرٍ جار. ومن حكمته تعالى تحريم الصيد وقت الحج، وتحريم أكل أنواع بعينها من الحيوانات والطيور بل والحشرات للحفاظ على توازن البيئة، وكذلك الاقتصاد في الأضحية حيث كان أتباع أديان سابقة يسرفون في تقديم الأضاحي حتى تصل إلى المائة، وكذلك النهي عن التسري بقتل الطيور والحيوانات إذا لم يكن لذلك هدف الانتفاع والأكل.
وقد عرف العرب نظام الأحمية الطبيعية في بيئات المراعي العربية القديمة، ومن الأحاديث الشريفة التي تدعو إلى الحفاظ على الحياة النباتية ما جاء في حديث الرسول ﷺ الذي رواه البخاري: “إن قامت الساعة وفي أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها.. فليغرسها”.