يعلم الله يا أخي مدى الضيق الذي أصابني بعد قراءتي لرسالتك، ممَّا وصل إليه حال بعض من ينتسبون للدعوة، ويلصقون ما تنضح به أفهامهم السقيمة بالإسلام والأخوَّة الإسلامية، وهما منه براء.
إنَّنا لا ننكر أنَّ الأخوَّة الإسلاميَّة لها حقوقٌ ينبغي أن تؤدَّى، ولكن بالمقابل هناك أيضاً واجباتٌ ينبغي أن تُعطَى.
وقد بيَّن ﷺ بعض هذه الحقوق والواجبات في عدَّة أحاديث، منها ما رواه الإمام البخاريُّ بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ ﷺ أنَّه قال: “حَقُّ المسلم على المسلم خَمس: رَدُّ السلام، وعيادة المريض، واتِّباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس”، وفي رواية للإمام مسلم: “حقُّ المسلم على المسلم ستّ: إذا لقيته فسلِّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإِذا استنصحك فانصح له، وإِذا عطس فحمد الله تعالى فشمِّته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعْه”
وقد قيل: إنَّ أخوَّة الدين أثبت وأعظم من أخوَّة النسب؛ لأنَّ أخوَّة النسب تنقطع بمخالفة الدين، وأخوَّة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره.. بحسب امرئٍ من الشرِّ أن يحقر أخاه المسلم، كلُّ المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه”رواه مسلم.
وقال ﷺ أيضا: “مَنْ كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كُربةً فرَّج الله عنه كربةً من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة”رواه البخاري.
وجاء في الأثر موقوفاً على سلمان الفارسي: “مثل الأخوين إذا التقيا مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى، وما التقى مؤمنان قطّ، إلا أفاد الله أحدهما من صاحبه خيرا.
ونلاحظ في كلِّ هذه النصوص أنَّ المنفعة متبادلة، والفائدة مشتركةٌ بين الأخوين، لا يستقلُّ واحدٌ بجانب الأخذ والآخر بجانب العطاء.
حتى عندما تكلَّم المولى عزَّ وجلَّ عن علاقة الإخاء بين المهاجرين والأنصار، وصفها بأروع وصف، وصوَّرها بأبهى صورة، حيث قال سبحانه وتعالى: “والذين تبوَّءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبُّون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجةً ممَّا أوتوا ويؤْثِرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةً ومن يوق شحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون، والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربَّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا ربَّنا إنَّك رءوفٌ رحيم”، فالأنصار أصحاب الديار يحبُّون إخوانهم المهاجرين، ويؤْثِرونهم على أنفسهم ولو كانوا في حاجةٍ لما يعطونه لإخوانهم، والمهاجرون الوافدون يدعون بالمغفرة لإخوانهم الذين فتحوا لهم ديارهم، ولا يحسدونهم على ما آتاهم الله من فضله، بل يسألون الله عزَّ وجلَّ أن يصفِّي قلوبهم لإخوانهم.
إنَّ فرقاً كبيراً بين أن يتمتَّع الأخ بحقوق أخوَّته، وبين أن يستغلَّ تلك الأخوَّة لمصالحه الشخصيَّة، ويستبيح تلك الحقوق بصرف النظر عن مصلحة الطرف المقابل، مطالباً له ومُذكِّراً إيَّاه بصفة الإيثار!!، وقد نسي أنَّ الإيثار يجب أن تقابله عفَّةٌ واستغناء، كما كان يفعل الصحابة رضي الله عنهم حين آخى رسول الله ﷺ بينهم، فعن أنس رضي الله عنه قال: قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة، فآخى النبيُّ ﷺ بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاريّ، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلَّني على السوق.رواه البخاري.
هكذا.. أخٌ يؤثِر، وآخر يستعفف، لم يركن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إلى دعوة أخيه ويستغلَّ الموقف رغم حاجته الشديدة والحقيقيَّة، حيث خرج من مكَّة مجرَّداً من كلِّ ماله، وإنَّما استعفف ولم تمتدّ عيناه إلى مال وأهل أخيه، ودعا له بالبركة، وانصرف يبحث له عن موردٍ يحصِّل منه الرزق.
إنَّ الحقوق لابدَّ أن تكون متبادلة، لا كما يراها الذين يرون أنَّها من طرفٍ واحدٍ فقط، هو الأخذ، والأخذ فقط.
إنَّ كثيراً من المفاهيم التي نتربَّى عليها في البدايات يُلقي عدم فهمها فهماً متَّسقاً مع غيرها يُلقي ببعض الظلال من التطبيقات الخاطئة لها.
فقد تربَّينا مثلاً على أنَّ من حقوق الأخوة أن يضع الأخ يده في جيب أخيه ويأخذ منه ما يشاء دونما استئذان، وليس لصاحب هذا الجيب أن يعترض أو يتدخَّل، وإلا اتُّهِم في فهمه لدينه وإخلاصه وحبه لإخوانه!!. هذا في سياقه المعتدل والمتَّزن جميلٌ ومقبول، ولكن لا ينبغي أن يدفع الأخ إلى فعل ذلك مع أخيه إلا حاجةً حقيقيَّة.
فإخوانك هؤلاء الذين يستبيحون حاجيَّاتك كلَّها مطالِبين إيَّاك بالتحلِّي بخُلُق الإيثار، لا شكَّ أنَّهم مخطئون في فهمهم وفي تصرُّفاتهم، ويجب أن يفهموا أنَّ هذا ليس لهم على الإطلاق، وأنَّ عليهم واجباتٍ في مقابل تلك الحقوق، والأولى لهم أن يستعففوا عن حاجة أخيهم إلا في حالة الضرورة والاحتياج الشديد، على أن يردُّوا ما أخذوه حالة استطاعتهم الردّ.
أعرف يا أخي جيِّداً الشعور الذي يتملَّكك عندما تصادف هذه التصرُّفات من إخوانك، ومدى الحرج الذي ينتابك، ولن أكلِّفك فوق طاقتك وأطلب منك أن تتوجَّه إليهم مباشرةً ببيان خطئهم، ولكن يمكنك أن توصي بعض من تثق فيهم وتركن إليهم من إخوتك وأساتذتك ليثيروا مناقشة تلك الأمور في تجمُّعٍ لكم، ليكون الكلام عامًّا على طريقة (ما بال أقوامٍ يفعلون كذا وكذا..).
عسى الله أن يُبَصِّرنا جميعاً بالحقّ، ويرزقنا اتِّباعه.
ومرحباً بك وبرسائلك دائما.
الأستاذ فتحي عبد الستار