الإسمنت سلعة يحتاجها العالم كله، لكن الأتربة الناتجة عن صناعته شبح موت يتسلل للبيئة والبشر، وما كان من الدول المتقدمة إلا أن صرفت هذا الشبح عن أرضها، وتركته للدول النامية يختنق به بيئتها وشعوبها؛ فقرر أحد أبناء تلك الشعوب المختنقة أن يحبس هذا الشبح في الزجاج؛ حيث أسفرت تجارب د.محمد يسري حسان أستاذ الفيزياء بكلية العلوم جامعة الأزهر عن إمكانية استخدام الأتربة الناتجة عن صناعة الإسمنت في صناعة الزجاج.
تلك الأتربة التي يطلق عليها أتربة “الباي باص” -أي الناتج الهامشي للصناعة- تعتبر من أخطر ملوثات البيئة في المناطق المحيطة بمصانع الإسمنت لدقة حجمها ونعومتها وسهولة تطايرها في الهواء المحيط مسببة تلوثًا خطيرًا للبيئة ومؤثرة على صحة الإنسان وجهازه التنفسي على وجه التحديد.
ويقول د.محمد حسان: إن السبب الرئيسي الذي جعله يفكر في تراب الإسمنت كمادة تدخل في صناعة الزجاج هي دراسة أجراها حول هذا التراب توصل من خلالها أنه يحتوي على أكسيد الكالسيوم وأكسيد الألومونيوم وأكسيد البوتاسيوم، وهي مواد تحتاجها مصانع الزجاج وتشتريها لإضافتها على الرمال لتحسين صفات الزجاج؛ لذا تولدت لديه فكرة استخدام هذا التراب بإضافته للرمال أثناء تصنيع الزجاج، وبذلك نكون قد حققنا فائدتين مهمتين؛ خلصنا البيئة من هذا الملوث القوي، وأنتجنا زجاجا رخيص الثمن.
ولكن التساؤل الذي يطرح نفسه هو: ما هي النسبة التي يمكن أن يدخل بها التراب في صناعة الزجاج؟ وهل هي كافية لاستهلاك الكم الناتج من تلك الأتربة؟ وكان رد د.حسان أن التجارب التي أجراها حول الخلطة التي يصنع منها الزجاج أثبتت أن تراب الإسمنت يمكن أن يدخل في صناعة الزجاج بنسبة عالية تصل إلى نحو 50% من مكونات الخلطة حتى يمكن الاستفادة من الكميات الهائلة التي تلفظها مصانع الإسمنت يوميا والتي تصل إلى نحو 300 طن يوميا من المصنع الواحد. ويضيف أنه أثبت أن استخدام هذه الأتربة في صناعة الزجاج يحمل مزايا أخرى للزجاج نفسه؛ حيث تعطيه ألوانا جذابة دون الحاجة لإضافة أي مواد كيميائية؛ وذلك لاحتواء التراب على القلويات والأكاسيد المختلفة المفيدة في هذا الشأن.
واقع الدول النامية.. خانق
وعن إمكانية الخروج بهذا الاكتشاف من النطاق البحثي إلى الواقع العملي أكد حسان أن المشروع بالفعل خرج إلى النور، وتم تنفيذه عمليا؛ فقد تحمس له د.ممدوح رياض وزير الدولة الأسبق لشئون البيئة فور علمه به، واتفقت وزارة البيئة المصرية وقتها مع أحد مصانع الزجاج بمدينة “سرس الليان” بمحافظة المنوفية الواقعة في وسط دلتا النيل على تنفيذ مشروع تجريبي لإنتاج الزجاج الملون من تراب الإسمنت، وتم افتتاح خط إنتاجه الأول في 17 مارس 2004 بحضور محافظ المنوفية ود.نادية مكرم عبيد المديرة التنفيذية للمركز العربي الأوربي للتنمية والبيئة، وأعضاء لجنتي الصحة والبيئة بمجلسي الشعب والشورى. لكن الواقع البيروقراطي المؤلم في الدول النامية قد يصبح خانقاً أكثر من تراب الإسمنت نفسه؛ فما إن خرج د.رياض من الوزارة حتى توقف المشروع تماما، رغم ما أثبته من جدوى اقتصادية كبيرة.
الجدوى الاقتصادية.. حقيقة أم وهم؟
وعن هذه الجدوى سألنا د.ممدوح رياض وزير البيئة المصري الأسبق الذي يعد من أبرز المتحمسين لهذا الاكتشاف، فأوضح أن تراب الإسمنت ليس إسمنتًا ولا عنصرا يمكن أن يستخدم عبر إعادة التدوير لصناعة الإسمنت مرة أخرى، خاصة إذا علمنا أنه يحتوي على كمية من القلويات والكبريت والكلوريدات التي تلفظها صناعة الإسمنت؛ وهو ما يجعل مصانع الإسمنت تتخلص منه بإلقائه في العراء.
وبسبب دقة حبيبات هذا التراب فإن أقل قدر من الهواء يحمله بسهولة، وينشره على مساحة واسعة في المناطق المحيطة بمصانع الإسمنت فيستنشقه الناس، ويؤدي إلى أمراض الجهاز التنفسي والرئة، وهو السبب الذي يجعل كثيرا من الدول المتقدمة تترك هذه الصناعة للدول النامية للمحافظة على بيئتها نظيفة.. ولذلك فإن قيمة هذا الاكتشاف في المقام الأول قيمه بيئية، فضلا عن القيمة الاقتصادية الكبيرة له والتي تأخذ عدة اتجاهات.
فأتربة الإسمنت عندما تستخدم في عجينة الزجاج توفر استهلاك المواد البديلة التي تضاف لتحسين الزجاج، كما أنها تعمل على خفض درجة انصهار العجينة المكونة للزجاج بأكثر من 100 درجة مئوية؛ مما يسهم في ترشيد استهلاك الطاقة، وفي النهاية تكون النتيجة تخفيض سعر الزجاج، هذا إضافة إلى أن التراب يحتوي على بعض العناصر التي تضفي ألوانًا جذابة على الزجاج، وهو بعد آخر يعطي قيمة للتراب.
ويختم د.رياض حديثه عن الجدوى الاقتصادية بالإشارة إلى ما أثبتته نتائج المشروع التجريبي الذي نفذ بمصنع الزجاج بـ”سرس الليان” والتي أكدت أن العائد من تصنيع هذه الأتربة يصل إلى 80% من إجمالي قيمة الإسمنت تام الصنع، خاصة أن تراب الإسمنت لا ثمن له إلا تكلفة النقل من مصنع الإسمنت إلى مصنع الزجاج؛ وهو ما يدفعنا أن نطالب بضرورة إعادة الاهتمام بهذا الاكتشاف في كل الدول المصنعة للإسمنت والتوسع في إنشاء مصانع للزجاج بجوار مصانع الإسمنت.
زجاج ملون.. آمن صحيًّا
نجفة من الزجاج الملون المنتج من عجينة تراب الإسمنتبقي في النهاية أن نطمئن على مدى الأمان الصحي للعبوات والأواني الزجاجية المصنعة من تراب الإسمنت، وفي هذا الصدد أكد د.حسان أن الأواني المنتجة من الأتربة غير ضارة إطلاقًا بالصحة عند استخدامها؛ وهو ما دفع بعض المستثمرين الذين حضورا افتتاح خط الإنتاج التجريبي إلى التفكير في استخدام تراب الإسمنت لإنتاج أطباق المائدة وزجاجات المياه الغازية بل وعبوات الأدوية، وقد تم بالفعل إنتاج نجف من هذا الزجاج الملون.
قد لا يكون بمقدورنا أن نحول التراب إلى ذهب، لكن واضح أنه من الممكن تحويل تراب الإسمنت القاتل لزجاج متميز؛ فهل سنترك المشروع صريع الأدراج أم سيفيق أحد ويبدأ في التطبيق؟.
حازم يونس