من الظواهر التي لا يستطيع منصف أن ينكرها ظاهرة ضعف الإيمان في قلوب كثير من المسلمين، فكثيرًا ما يشتكي المسلم من قسوة قلبه وعدم شعوره بلذة الطاعة، وضعف تأثره بالقرآن الكريم، وسهولة الوقوع في المعصية، إلى آخر ذلك من مظاهر ضعف الإيمان.
وبداية نقول: إن موضوع القلب موضوع حساس ومهم، وقد سمي قلبًا لسرعة تقلبه، قال ﷺ: “إنما سمي القلب من تقلبه، إنما مثل القلب كمثل ريشة معلقة في أصل شجرة، يقلبها الريح ظهرًا لبطن” رواه الإمام أحمد. وقلوب العباد جميعهم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء” رواه مسلم.
وبما أن “اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ”، وحيث إنه لن ينجو يوم القيامة “إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ” وحيث إن الويل “لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللهِ” وحيث إن الوعد بالجنة ورد في حق “مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ”، حيث إن الأمر كذلك فلا بد للمؤمن أن يتحسس قلبه ليعرف مكمن الداء وسبب المرض ويشرع في العلاج، قبل أن يطغى عليه الران -والعياذ بالله- فيهلك. ولنتحدث عن مظاهر ضعف الإيمان:
مظاهر ضعف الإيمان
مظاهر ضعف الإيمان كثيرة ومتنوعة.. منها:
(1) الوقوع في المعاصي وارتكاب المحرمات: ذلك أن المؤمن قوي الإيمان يخاف الله تبارك وتعالى، ويراقبه، فإذا وقع في معصية كبيرة أو ذنب عظيم انتفت عنه صفة الإيمان لحظة ارتكابه المعصية؛ ولهذا قال ﷺ: “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن” متفق عليه. وإذا كان الوقوع أو كثرة الوقوع في المعاصي من مظاهر ضعف الإيمان، فإن المجاهرة بها أعظم جرمًا وأفدح أثرًا، كما قال ﷺ: “كل أمتي معافى إلا المجاهرين” رواه البخاري. وفسر المجاهر بأنه الذي يفضح نفسه ويكشف ستر الله عنه بما عمل من معاصٍ.
(2) عدم الحفاظ على الطاعات، والتكاسل في أدائها وعدم الاكتراث بمواسم الخير ومواطن البركة.
(3) الشعور بقسوة القلب وصاحب القلب القاسي لا تؤثر فيه الموعظة مهما عظمت!
(4) عدم إتقان العبادات فيشرد الذهن في الصلاة وغيرها.. وقلة التدبر وقلة الخشوع، ولو اعتاد أن يدعو بدعاء معين فإنه لا يفكر في معناه، مع أن الرسول ﷺ قال: “لا يقبل الله دعاء من قلب غافل لاهٍ” الترمذي.
(5) ضيق الصدر وتغير المزاج، فيصبح المرء سريع التضجر والتأفف، وتذهب سماحة نفسه.
(6) عدم التأثر بآيات القرآن، لا بوعده ولا بوعيده، ولا بأمره ولا نهيه، ولا بوصفه للقيامة، فضعيف الإيمان يمل من سماع القرآن ولا يطيق مواصلة قراءته، وكلما فتح المصحف أراد أن يغلقه! وقد يقضي ساعات طويلة في توافه الأمور!
(7) الغفلة عن ذكر الله تعالى.
(8) عدم الغضب إذا انتهكت محارم الله، فلا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، ولا يتمعر وجهه قط في الله!
(9) حب الظهور والسيطرة والإمارة، مع عدم وجود مؤهلات ذلك من أسباب دينية أو دنيوية.
(10) محبة تصدر المجالس والاستئثار بالكلام.
(11) الشح والبخل، قال ﷺ: “… ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه”.
(12) أن يقول الإنسان ما لا يفعله، وقد استنكر الله ذلك من المؤمنين فقال: “كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ” الصف.
(13) عدم الاهتمام بأمر المسلمين، وعدم الحزن لما يصيبهم من سوء، أو الفرح لما يصيبهم من خير.
(14) الوقوع في الحرام والشبهات والاهتمام بالسؤال عن الحرام فقط والاستهانة بالمكروهات وكذلك الاستهانة بمحقرات الذنوب التي حذر منها النبي ﷺ ووضح أنها (تجتمع على الرجل حتى تهلكه) حديث صحيح. وينتج عن ذلك الاجتراء على محارم الله تعالى.
(15) احتقار أو عدم الاهتمام بالحسنات الصغيرة. وقد قال ﷺ: “لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط” (رواه الإمام أحمد، وهو في السنة الصحيحة للألباني) وقد “دخل رجل الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين” كما “غفر الله لبغي من بني إسرائيل لأنها سقت كلبًا كاد يهلك من شدة العطش”.
(16) انفصام عرى الأخوة بين المسلمين، قال تعالى: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ”.
(17) عدم استشعار المسئولية في العمل من أجل هذا الدين. وهذا الطفيل بن عمرو الدوسي بمجرد إسلامه نظر لدعوة قومه.
وهذا ثمامة بن أثال -رئيس أهل اليمامة- لما أُسر وإذا به أسلم وقال لكفار قريش “لا تصلكم حبة حنطة (أي قمح) من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله”.
(18) الفزع والخوف عند وقوع البلاء. لأن المؤمن قوي الإيمان يصبر ويحتسب ويستعين بالله تعالى الذي قال: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ”.
(19) كثرة الجدل والمراء. لأن النبي ﷺ حذر من ذلك ووعد ببيت في الجنة “لمن ترك المراء وإن كان محقاً”. رواه أبو داود.
(20) التعلق بالدنيا والشغف بها والحزن الشديد على فوات متاعها.
هذه أغلب أو معظم مظاهر ضعف الإيمان.. فما هي الأسباب؟.
أسباب ضعف الإيمان
1- الابتعاد عن الأجواء الإيمانية فترة طويلة. فالمؤمن قليل بنفسه كثير بإخوانه، يقول الحسن البصري: “إخواننا أغلى عندنا من أهلينا، فأهلونا يذكروننا الدنيا، وإخواننا يذكروننا بالآخرة”.
2- الابتعاد عن القدوة الصالحة. ولذلك لما توفي الرسول ﷺ قال الصحابة: “فأنكرنا قلوبنا وأصابتهم وحشة”.
3- الابتعاد عن طلب العلم الشرعي وعدم مطالعة القرآن وكتب الحديث والمواعظ والرقائق وغيرها.
4- وجود الإنسان في وسط يعج بالمعاصي والآثام ولا يذكر الآخرة.
5- الانشغال الزائد بالمال والزوجة والأولاد. قال تعالي: “إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ”.
6- طول الأمل في الدنيا. قال تعالي: “ذَرْهُمْ يَأكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ”. وقال علي رضي الله عنه: “إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة”. رواه البخاري.
7- الإفراط في الأكل والنوم والسهر والكلام والاختلاط بالناس. قال ﷺ: “كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب”. وفي الأثر: “من أكل كثيراً شرب كثيراً فنام كثيراً، وخسر أجراً كبيراً”.
وأسباب ضعف الإيمان كثيرة. ليس بالوسع حصرها، ولكن يمكن أن يسترشد بما ذكر على ما لم يذكر. والعاقل من يدرك ذلك من نفسه.
علاج ضعف الإيمان
معلوم أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. وقد قال بعض السلف: “من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما ينقص منه، ومن فقه المرء أن يعلم نزغات الشيطان أنى تأتيه”.
ووسائل علاج ضعف الإيمان كثيرة نذكر منها:
1- تدبر القرآن العظيم. قال تعالي: “وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ”. وقال سبحانه: “أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ” وأفضل الذكر قراءة القرآن. وقد روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرض من أثر تلاوة قول تعالى “إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ . مَا لَهُ مِن دَافِعٍ”. وقال عثمان: “لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام الله تعالى”.
2- استشعار عظمة الله ومعرفة أسمائه وصفاته والتدبر فيها ومعرفة معانيها.
3- طلب العلم الشرعي: قال تعالى: “إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ“.
4- الاستكثار من الصالحات وملء الوقت بها، وقد قيل عن حماد بن أبي سلمة شيخ الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه: “لو قيل له إنك ستموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً.
5- المداومة على الأعمال الصالحة: إذ إن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل. وقد كان السلف الصالح يقومون الليل في الغزو والقتال ويذكرون الله في كل حال وتمر على بعضهم السنون لا تفوته تكبيرة الإحرام مع الإمام في الجماعة، ويتفقد أحدهم عيال أخيه في الله بعد موته سنوات ينفق عليهم.
6- استدراك ما فات من الطاعات، كما كان النبي ﷺ يفعل.
7- الجمع بين الرجاء في رحمة الله وقبوله العمل الصالح، مع الخوف من عدم القبول. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: “سألت رسول الله ﷺ عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ…} المؤمنون. فقلت يا رسول الله: هم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا، يا بنت الصدّيق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون ألا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات. رواه الترمذي.
8- ومن وسائل علاج ضعف الإيمان كذلك تنويع العبادات ما بين صلاة وصيام وقراءة قرآن وصدقات… الخ، لأن ذلك ينشط النفس فلا تمل من طاعة واحدة، وبهذا يزداد الإيمان.
9- الحزن من سوء الخاتمة والإكثار من ذكر الموت وتذكر منازل الآخرة.
10- التأمل مع الآيات الكونية “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ..” آل عمران.
11- مناجاة الله تعالى والانكسار بين يديه وقصر الأمل وعدم الاغترار بالدنيا ويعظم حرمات الله وحسن الظن بالله والتوكل على الله والرضا لقضاء الله ومحاسبة النفس وحملها على الاستعداد للقاء الله عز وجل وملاطفة الفقراء والأيتام وذوي الحاجة وغير ذلك من الأعمال الصالحة.
ولا يخلو أي إنسان من لحظات يضعف إيمانه، ولكن لا يعني ذلك عدم وجود الخير بين جوانحه.. المهم أن يستثمر المسلم طاقاته وقدراته في المحافظة على قدر من الإيمان يتناسب مع سمو العلاقة بالله.
عبدالمنعم أبو السعود