انكب الباحثون “بوكالة ناسا” في الفترة الأخيرة على دراسة الحشرات والطيور والخفافيش، وتَدَبُر آلية طيرانها، وتحليل الطرق التي تحوم بها، وتطير بها للخلف، وللجنب ولأعلى ولأسفل وحول نفسها؛ ليتقنوا الدرس؛ وليأخذوا العبرة؛ لمحاكاة تلك التصاميم الذكية الرائعة، حيث ما زالت فكرة “الطائرة الشخصية” أو السيارة الطائرة التي يستبدل بها الناس سياراتهم العادية تلح بشدة على عقول العديد من العلماء، وبالرغم من أنها ظهرت منذ فترة كبيرة للوجود في عالم الخيال العلمي وأفلام الكرتون؛ فإن الوصول إلى هذه الطائرة الحلم ما زالت تواجهه بعض العقبات التكنولوجية حتى الآن.
ولكن بفضل ابتكار مواد جديدة، وتصاميم متطورة، ومساهمة تقنية التصوير الافتراضي الرقمي، وقدرة الكمبيوتر على تصميم نماذج متحركة ثلاثية الأبعاد بات من الممكن إنتاج هذه الطائرة، وتصميم طائرات أخرى تحلق على ارتفاعات عالية، بل يستطيع بعضها ارتياد الفضاء، واستكشافه والعودة منه مرة أخرى.
وشجع هذا التقدم التقني وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” على حث الخبراء، على ابتكار المزيد من الوسائل والمواد والتصاميم الحديثة؛ للاستفادة منها في تطوير تكنولوجيا الطيران، والوصول إلى الطائرة الحلم، في وقت تتقلص فيه ميزانية هذه الوكالة، في المشاريع الفضائية بعيدة المدى، وبالفعل يطور العلماء حاليًا في مركز بحوث “لانجلي” (لارك) الخاص بوكالة الفضاء الأمريكية تقنيات غريبة، ويستعملون المواد الذكية المزودة بملكات فريدة؛ لتطوير وتصميم تلك الطائرات.
و على غرار السيارة الطائرة، نجح هذا المركز البحثي في تصميم أجنحة للطائرات تتميز بأنها ذاتية الالتئام وتشفى تلقائيًّا من جراء نفسها، إذا ما تعرضت إلى كسر أو شرخ أو تصدع طفيف، وترفرف مثل أجنحة الطيور والحشرات، كما أنهم يصممون الآن قاذفات للقنابل متعددة الاستعمالات، كما يطورون حشودًا من الطائرات الآلية صغيرة الحجم للقيام بمهام استطلاعية، وقتالية تهاجم وتدمر المواقع الحربية، أو تصيب الجنود المحاربين بشلل مؤقت أو تقضي عليهم جميعًا بدون إراقة دماء!! باستخدام أنواع معينة من الأشعة والموجات، ويتوقعون أن تصبح مبتكراتهم الخطيرة التي تعيد للأذهان قدرات حرب الفضاء السينمائية شيئًا عاديًّا في العقود القادمة.
تصميمات افتراضية
تقول “أنا مكغووان” مديرة مشروع التصميم باستخدام الكمبيوتر، الذي يعتمد على تركيب الصور، وعلى تقنية التصوير الافتراضي الرقمي في مركز بحوث “لانجلي”:” إن مهمة مشروع تركيب الصور أن يضع تخيلا لما سيكون عليه التصميم الطليعي الفضائي في غضون 20 سنة من الآن، ويبدأ بتطوير التقنيات الحديثة؛ لجعلها متاحة للاستخدام في المستقبل القريب.
وعلى سبيل المثال، الحافلة – الطائرة (تعمل مثل السيارة الطائرة في آن واحد) الشخصية ستكون منضغطة التصميم، وستكون قادرة على الطيران المنخفض للغاية والطيران المرتفع بسرعات عالية جدًّا، وحافلة مثل “عربة جيتسونس” من المحتمل أنها ستحتاج إلى جناح يمكنه الخضوع لتغيير جذري في الترتيب والتشكل حسب الطلب، فهذه الطائرة الصغيرة ستحتاج لنوع من الأجنحة في السرعة المنخفضة يختلف عنه في السرعات العالية”.
وهناك اليوم بعض الطائرات التي يمكنها تغيير وجهة أجنحتها، مثل الطائرة البحرية إف -14 “تومكات” وبي-1 (قاذفة قنابل أسرع من الصوت)، ولكن هذه الطائرات تستعمل أجنحة متصلبة ترتبط بمدارات ثقيلة نسبيًّا وكبيرة الحجم في جسم الطائرة.
على النقيض من ذلك، يتصور علماء مشروع تركيب الصور أن أجنحة المستقبل سوف يكون لها القدرة على الانحناء والتشكل الذاتي؛ لخلق الشكل المطلوب للأجنحة حسب الاحتياج في السرعات المنخفضة والسرعات العالية، اعتمادًا على المواد الجديدة التي تتذكر أشكالها السابقة، وتعود لحالتها الأولى ” السبائك المعدنية المتذكرة لأشكالها”، والمواد الذكية الجديدة، والمواد ذاتية الالتئام.
المواد الذكية
ويؤكد الباحثون على أن العديد من التقنيات السابقة متاحة الآن في المختبرات البحثية، وأن أفكارهم ما هي إلا بضع من إمكانيات العلم الحالي التي ستقدم تقنيات غربية للأجيال التالية لم نسمع بمثلها من قبل.
السبائك المتذكرة أو الحافظة للشكل
وهي نوع جديد من السبائك التي تتميز بملكات غير عادية وبقدرتها للعودة إلى شكلها الأصلي بقوة عظيمة وبسرعة عالية، حين يتم معالجتها حراريًّا، ومن الممكن تشكيل هذه المواد بأي صورة من الصور.
المواد ذاتية الالتئام
ولكي تتعرف عليها أكثر، تخيل أنك ترى رصاصة تخترق إحدى الجوامد مثل زجاج أو جسم سيارة، وبعد أن تم الاختراق ترى هذه المادة “تشفى” وتلتئم من تلقاء نفسها بشكل فوري بعد الإصابة بالرصاصة! .. تذكر، هذا ليس بخيال علمي، ولكن العلماء تمكنوا بالفعل من تصنيع مثل هذه المواد ذاتية الشفاء في الحقيقة، ويعكف علماء “ناسا” على صنع نماذج معتمدة على العروض الكمبيوترية لرؤية كيف تتصرف هذه المواد على المستوى الجزيئي؛ حتى يتمكنوا من الاستفادة منها إلى الحد الأقصى.
عظام الطيور
تتميز عظام الطيور بأنها خفيفة للغاية، بسبب وجود فجوات ومسام داخل العظام، لكنها في الوقت نفسه قوية جدًّا، وعلماء “لارك” يمكنهم الآن تصنيع هياكل للطائرات مشابهة لعظام الطيور، عن طريق حقن كريات من البوليمرات polymer micro-sphere في هياكل أو صدفات مركبة تحدد الشكل المطلوب، ثم تسخن هذه المواد لدمجها سويًّا؛ للحصول على الهيكل المطلوب، الذي يتميز بالمتانة وخفة الوزن، ويظهر من الداخل على هيئة فقاعات صابون ضئيلة الحجم.
ويؤكد العلماء على أنه إذا حدث اندماج بين هذه المواد مع الإلكترونيات الدقيقة، فيمكنه أن يؤدي إلى تقدم جذري في تصميم الطائرات، ويُتَوَقع في المستقبل في غضون العشرين سنة القادمة أن نرى طائرات لها القدرة على التقييم والإصلاح الذاتي في الحال، عن طريق توزيع هذه المشغّلات والمجسات على الأجنحة، مثلما يحدث في الجسم الحي؛ حيث توزع العضلات والأعصاب في جميع أنحاء الجسم، وتستجيب للمتغيرات الخارجية بطريقة تلقائية.
وبعيدا عن السيارة الطائرة تفتح هذه الدراسات العلمية الخصبة في عالم الأحياء الباب على مصراعيه للوصول إلى تقنيات وأفكار جديدة في هندسة الطيران تعتمد على التقليد أو المحاكاة الأحيائية” البيوميميتكس “biomimetics” التي تعتمد بدورها على التعلم من الطبيعة لمحاكاة التصميم البيولوجي، للحصول على تصميمات هندسية رائعة، وللوصول إلى جودة مثالية لا توفرها طرائق الهندسة، وعناصر التصميم التقليدية المتوفرة حاليًا.
طارق يحيى قابيل