كان لسقوط طليطلة في مستهل صفر سنة 478هـ في أيدي القشتاليين دوي هائل في الأندلس والعالم الإسلامي، وعُدَّ سقوطها واحدة من المآسي الكبرى في تاريخ المسلمين؛ لأن سقوطها لم يكن عن عجز في المقاومة أو ضعف في الدفاع، أو قلة في العتاد، وإنما سقطت لسقوط قيم النجدة والإغاثة، وتردي شيم المروءة والأخوة؛ فتركها جيرانها من ملوك الطوائف تسقط، وتخرج من قبضة الإسلام إلى الأبد، دون أن يتقدم أحد لنجدتها باستثناء صاحب بطليوس، وتركت المدينة المنكوبة لمصيرها المحتوم.
صحوة ملوك الطوائف
شجعت مواقف ملوك الطوائف المخزية أن يتحرك “ألفونسو السادس” ملك قشتالة في محاولة منه لالتهام حواضر الإسلام الأخرى، فتوالت غزواته، وراح يهدد سرقسطة وإشبيلية وبطليوس وغيرها من قواعد الأندلس، كان ذلك نذيرًا.. فتحرك ما بقي من ضمائرهم، وتفتحت أعينهم على حقيقة جلية، وهي أن ما أصاب طليطلة سيصيبهم، ولن تنفعهم معاهدات عقدوها مع ملك قشتالة، وأن مصيرهم إلى السقوط والهلاك ما لم يتداركوا مواقفهم، وتتحد كلمتهم وتجتمع على كلمة سواء.
وأدرك “المعتمد بن عباد” صاحب إشبيلية خطورة الموقف، وهو أشد ملوك الطوائف مسئولية عما حدث؛ لأنه كان بإمكانه نجدة طليطلة، ومد يد العون إليها، لكن غلَّت يديه معاهدةٌ مخزية عقدها مع القشتاليين بمقتضاها يتعهد ملك قشتالة بمعاونة المعتمد ضد جيرانه من الأمراء المسلمين، وفي المقابل يتعهد المعتمد بأن يؤدي الجزية لملك قشتالة، وأن يطلق يده في أعماله العسكرية ضد طليطلة، دون أن يتدخل لوقف أعماله، وبعد سقوط طليطلة، بدأ ألفونسو ملك قشتالة يشتد في مطالبه المالية ويرهقه بالمزيد منها، بل إنه كاتبه يطالبه بتسليم بلاده، وينذره بسوء المصير، وبدأ بالفعل في اجتياح بلاده وتخريب مدنها وقراها.
رعي الإبل لا الخنازير
أجمع ملوك الطوائف على ضرورة الاستغاثة بيوسف بن تاشفين أمير دولة المرابطين المغربية وكانت دولة قوية بسطت نفوذها بالمغرب، وكان قد ذاع صيته، واشتهر أمر فُتُوحه في المغرب، وحبه للجهاد، وإقامته حكومة تقوم على العدل والقسطاس.
وبدأ ملوك الطوائف يكاتبون الأمير يوسف ويرسلون إليه الرسل، يستنصرون به على محاربة النصارى الذين اشتد سلطانهم، وتفتحت شهيتهم لالتهام الأندلس، ويصفون له حالهم وما ينتظرهم من خطر السقوط والفناء؛ إذ لم يبادر هو بإغاثتها ونصرها.
ولم تكن فكرة الاستنصار بالمرابطين تلقى إجماعًا بقبولها من قبل ملوك الطوائف، فقد كان هناك من يخشى مغبة هذه السياسة ويعارض قيامها، مخافة أن يطمع المرابطون في بلادهم فيلحقوها بدولتهم الفتية، غير أن “المعتمد بن عباد” حسم الموقف وأخمد الفتنة بمقولته المأثورة: “رعي الإبل خير من رعي الخنازير” يقصد بذلك أنه يفضل أن يكون أسيرًا لدى أمير المرابطين يرعى له جماله من أن يكون أسيرًا لدى ملك قشتالة.
عبور المرابطين
منظر عام لطليطلة
استجاب يوسف بن تاشفين لدعوة ملوك الطوائف، وأعد جيشًا عظيمًا، عبر به البحر المتوسط إلى الأندلس، فاستقبله أمراؤها، وسار بجيشه إلى إشبيلية حيث وافته جيوش الأندلس، وفي أثناء ذلك الوقت كان “ألفونسو” ملك قشتالة مشغولاً بمحاربة “ابن هود” أمير سرقسطة، فلما علم بخبر عبور المرابطين ترك محاربة ابن هود، وجمع جندًا من سائر الممالك النصرانية للقاء الجيوش الإسلامية، فالتقى الفريقان في سهل الزلاقة بالقرب من بطليوس، في معركة هائلة في (12 من رجب 479 هـ: 23 من أكتوبر 1086 م)، ثبت فيها المسلمون وأبلوا بلاءً حسنًا حتى أكرمهم الله بالنصر، وقتل معظم جيش القشتاليين، ومن نجا منهم وقع أسيرًا، وفر ملكهم بصعوبة في بضع مئات من جنده جريحًا ذليلاً، وعاد يوسف بن تاشفين إلى المغرب متوجًا بتاج النصر والفخار، وملقبًا بأمير المسلمين.
كان هذا النصر عزيزًا، أعاد الثقة في نفوس الأندلسيين، واهتزت له مشاعر المسلمين فرحًا وطربًا، ورد خطر القشتاليين عن الأندلس إلى حين بعد أن كانت على موعد مع الغثاء والهلاك، وكتبت لها حياة جديدة، امتدت إلى أربعة قرون أخرى.
عبور المرابطين ثانية
لم يكد يستقر يوسف بن تاشفين في المغرب حتى عادت كتب الأندلسيين ووفودهم تترى عليه؛ طلبًا لنجدتهم من القشتاليين الذين عاودوا التدخل في شئون شرقي الأندلس في بلنسية ومرسية ولورقة، فأجابهم إلى ذلك، وعبر بقواته إلى الأندلس في (ربيع الأول 481 هـ: يوليو 1088م) واتجهت مع القوات الأندلسية إلى حصن (ليبط)، وهو حصن أقامه القشتاليون بين “مرسية” ولورقة، ليكون قاعدة للإغارة على أراضي المسلمين في هذه المنطقة.
حاصرت القوات المتحدة هذا الحصن، وسلطت عليه آلات الحصار، وضربوه بشدة، لكنها لم تنجح في هدمه أو إحداث ثغرة ينفذ منها المسلمون؛ نظرًا لمناعته واستماتة المدافعين، ودام الحصار نحو أربعة أشهر دون جدوى، ففك يوسف بن تاشفين الحصار بعدما كبد حامية الحصن خسارة كبيرة، وأهلك معظم رجاله حتى إن ملك قشتالة حين قدم الحصن لنجدته لم يجد فيه سوى مائة فارس وألف راجل (محارب من المشاة)، بعد أن كان يضم عند محاصرته ثلاثة عشر ألف مقاتل، ثم عاد يوسف إلى بلاده بعد ترك بعض قواته تحت إمرة خير قواده (سير بن أبي بكر اللمتوني).
العبور الثالث
شاهد أمير المرابطين عند عبوره إلى الأندلس ما عليه أمراؤها من فُرقة وتنابذ، وجنوح إلى الترف والبذخ، وميل إلى الدعة والراحة والعيش الناعم، في الوقت الذي يهملون فيه شئون رعيتهم، ويتقاعسون عن حماية دولتهم من خطر النصارى وتطلعهم إلى الاستيلاء على أرضهم، فاستقر في ذهنه ضرورة إزاحة هؤلاء الأمراء عن مواقعهم، وعزز من ذلك فتاوى كبار الفقهاء من المغرب والأندلس بوجوب خلع ملوك الطوائف، وانتزاع الأمر من أيديهم، وكان “أبو حامد الغزالي” و”أبو بكر الطرطوشي” على رأس القائلين بهذه الفتوى؛ وهو ما دعا أمير المرابطين إلى تنفيذ هذا الأمر، وكان لا يحب القيام بعمل إلا إذا كان متفقًا مع أحكام الشرع الحنيف.
عبر أمير المرابطين إلى الأندلس للمرة الثالثة بجيش ضخم في أوائل سنة (483هـ: 1090م) لتحقيق هذا الهدف، ومقاتلة النصارى، فاتجه بقواته إلى طليطلة، واجتاح في طريقه أراضي قشتالة دون أن يتقدم أحد من ملوك الطوائف لمعاونته أو السير معه، وكان يرغب في استرداد طليطلة لعله يشفى الجُرح الدامي، لكنه لم ينجح نظرًا لمناعة أسوارها العالية، فرجع بجيشه إلى إشبيلية وفي عزمه أن يستخلصها هي وغيرها من إمارات ملوك الطوائف بعد أن وقر في قلبه، وقامت عليه الأدلة إلى عودة ملوك الطوائف إلى عقد اتفاقات سرية مع ملك قشتالة، يتعهدون فيها بالامتناع عن معاونة المرابطين، والدخول في طاعة ألفونسو ملك قشتالة وحمايته.
دخول المرابطين قرطبة
قسم أمير المرابطين قواته في أنحاء الأندلس، وبدأ هو بالاستيلاء على غرناطة، ودخلها في (العاشر من رجب 483هـ: سبتمبر 1090م) وأعلن على الناس أنه سوف يحكم بالعدل وفقًا لأحكام الشرع، وسيدافع عنهم، ويرفع عنهم سائر المغارم الجائرة، ولن يفرض عليهم من التكاليف إلا ما يجيزه الشرع الحنيف.
ثم بعث أمير المرابطين بقائده الكبير “سير بن أبي اللتموين” على رأس جيش كبير إلى إشبيلية، فتمكن من الاستيلاء على كثير من مدنها، ودخل المرابطون قرطبة في اليوم الثالث من صفر 484 هـ: 26 من مارس 1091م، ثم تتابع سقوط مدن الأندلس في أيدي المرابطين ليبدأ عصر جديد في الأندلس.
أحمد تمام5>