كانت مجلة المنار في عصرها أكبر مجلة إسلامية في العالم الإسلامي، وأعظمها صيتًا، وأكثرها تأثيرًا، ولا تزال حتى اليوم تحتل مكانة مرموقة في الصحافة الإسلامية، على الرغم من انقطاع صدورها منذ نحو سبعين عامًا، وصدور عشرات المجلات الإسلامية في مختلف الدول والبلدان.

أحدث صدور المنار دويًا هائلاً ونشاطًا واسعًا، وتغيرًا في الرأي والتفكير، ولم يكن وراء هذه المجلة العظيمة مؤسسة تنفق عليها وتشرف على طبعها وتحريرها، بل كان يقف وراءها رجل عصامي وإمام فقيه ومجاهد عظيم هو محمد رشيد رضا.

صاحب المجلة.. وفكرة إصدارها

وصاحب هذا العمل الكبير هو الشيخ محمد رشيد رضا، أحد رواد الإصلاح في العالم الإسلامي، ولد في إحدى قرى لبنان، وتلقى تعليمه هناك، واشتغل بالدعوة والإصلاح في بلدته، ومال في بادئ حياته إلى الزهد والمجاهدة والوعظ والإرشاد، ثم شاء له القدر أن يقع في يديه بعض أعداد من مجلة “العروة الوثقى” التي كان يصدرها من باريس الإمامان: جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، فقرأ مقالاتها وتأثر بها غاية التأثر، وتغير كثير من أفكاره، وهو ما عبر عنه بقوله: “ولقد أحدث لي هذا الفهم الجديد في الإسلام رأيًا فوق الذي كنت أراه في إرشاد المسلمين، فقد كان همي قبل ذلك محصورًا في تصحيح عقائد المسلمين، ونهيهم عن المحرمات، وحثهم على الطاعات، وتزهيدهم في الدنيا، فتعلقت نفسي بعد ذلك بوجوب إرشاد المسلمين عامة إلى المدنية، والمحافظة على ملكهم، ومباراة الأمم العزيزة في العلوم والفنون والصناعات، فطفقت استعد لذلك استعدادًا…”.

ثم سنحت له الفرصة أن يلتقي بالإمام محمد عبده مرتين حين زار طرابلس، وازداد إعجابه به بعد المقابلتين، واشتد تعلقه به، وقوي إيمانه بأنه خير من يخلف جمال الدين الأفغاني في ميدان الإصلاح وإيقاظ الشرق من سباته. ولم يجد رشيد رضا ميدانًا أفسح له للعمل والإصلاح من مصر، فهاجر إليها، وقابل شيخه محمد عبده في القاهرة في (شعبان 1315هـ=فبراير 1898م)، ولم يكد يمضي شهر على نزوله القاهرة حتى فاتح أستاذه بأنه ينوي أن يصدر صحيفة يكون هدفها التربية والتعليم، ونشر الأفكار الصحيحة، ومقاومة الجهل والتخلف والبدع والخرافات.

صدور المنار

صورة مقال مجلة المنار .. (في ذكرى صدورها: 22 من شوال 1315هـ)

وبعد مناقشة حامية بين الرجلين المصلحين أيد محمد عبده تلميذه فيما يطمح إليه، وعرض رشيد رضا عدة أسماء للجريدة، من بينها المنار، ليختار منها محمد عبده ما يراه مناسبًا، فاختار “المنار”، وكان هذا هو الاسم الذي ارتاحت له نفس رشيد رضا كذلك، وصدر العدد الأول من مجلة المنار في (22 من شوال 1315هـ=15 من مارس 1898م)، وكانت أسبوعية، يتألف كل عدد منها من ثماني صفحات كبيرة على صورة الجريدة اليومية.

وحددت افتتاحية العدد الأول أهداف المجلة التي تتركز في الإصلاح الديني والاجتماعي للأمة وإبطال الشبهات الواردة على الإسلام، وتفنيد ما يعزى إليه من خرافات، وتربية البنين والبنات، وإصلاح كتب التعليم وطريقة التأليف، ودفع الأمة على مجاراة الأمم المتقدمة في مختلف المجالات. وحرص رشيد رضا على أن يعرض على أستاذه الإمام محمد عبده كل ما يكتبه من مقالات، ليسمع منه توجيهاته وإرشاداته.

وبعد عام من الصدور صارت المجلة تصدر على شكل مجلة أسبوعيًا، ثم أصبحت في العام التالي تصدر مرتين في الشهر، وبعد سنوات صارت تصدر كل شهر عربي مرة، وكان الشيخ رشيد يكتب على الصفحة الأولى “المنار مجلة شهرية تبحث في فلسفة الدين وشؤون الاجتماع والعمران”.

وكانت المنار تطبع في أول عهدها في مطبعة المؤيد التي كان يملكها الشيخ علي يوسف، ثم اشترى رشيد رضا مطبعة خاصة للمنار، يطبع فيها المجلة، وغيرها من كتبه ومطبوعاته.

موضوعاتها

كانت المجلة تستهل عددها بتفسير القرآن الكريم، وهو إما بقلم الشيخ محمد عبده أو سائر على طريقته، ثم تأتي “فتاوى المنار” حيث تنشر فيها الإجابات على الأسئلة التي تتناول أمورًا فقهية أو اعتقادية تلقاها الشيخ رشيد من قرائه، ثم تأتي بعد ذلك بعض المقالات الدينية أو الاجتماعية أو التاريخية، أو بعض الخطب المهمة للشيخ رشيد أو لغيره من كبار الخطباء، ومن الأبواب الثابتة التي كانت تلتزم بها المجلة “باب المراسلة والمناظرة” وباب بعنوان: “آثار علمية وأدبية”، وباب للأخبار والآراء، وآخر بعنوان: “تراجم الأعيان.

وكان رشيد رضا يكتب أغلب ما ينشر في المنار، على مدى عمرها المديد، وهو لا يوقّع مقالاته وبحوثه في المنار باستثناء الافتتاحية، ويقرر أن كل ما يكتب في المنار دون إمضاء فهو له، وكان وراء ذلك همة عالية، وزاد واسع من العلم، فرشيد رضا عالم موسوعي، ملم بالتراث الإسلامي، متمكن من علوم القرآن، على دراية عميقة بالفقه والحديث، مدرك لأحوال مجتمعه وعلله وأمراضه، شديد الإحاطة بما يدور في عصره الذي يعيش فيه، خبير بأحوال المسلمين في أقطارهم المختلفة.

ولم تقتصر المجلة على البحوث الدينية، بل نشرت كثيرًا من المقالات عن السنن الكونية، والطب والصحة، وأفردت مساحات للأدب والشعر والقصة الطريفة، والبحث اللغوي الشائق، وكانت تنقل عن المجلات الأخرى عيون مقالاتها أو بحوثها الجيدة، مثل: مجلة المقتطف، وصحيفة المؤيد، والتزمت أمانة النقل فكانت تذكر المصدر الذي أخذت عنه.

وشارك الشيخ رشيد في الكتابة في المنار أعلام الأمة من الأدباء والشعراء والعلماء، أمثال: أحمد الإسكندري، وحفني ناصف، ومصطفى صادق الرافعي، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وحافظ إبراهيم، وعبد المحسن الكاظمي، ومحمد روحي الخالدي، وعبد القادر المغربي، وشكيب أرسلان، ومحمد الخضر حسين، ورفيق العظم، وملك حفني ناصف، وهؤلاء جميعًا كانوا يتولون قيادة الفكر وتوجيه الناس في معظم أنحاء العالم العربي.

قضاياها

عنيت المجلة فيما عنيت بإصلاح العقيدة ومحاربة البدع والخرافات الشائعة في المجتمع، ونشر الفكر الصحيح، ونقد ما يحدث من انحرافات في الموالد الصوفية من منكرات، وما يقوم به بعض الناس من التبرك بالأولياء الأموات، وكانت المجلة شديد اللهجة، قوية الخطاب في معالجة هذا الوضع.

واهتمت المنار بالتربية والتعليم باعتبارهما جوهر دعوة محمد عبده للإصلاح، ولا يكاد يخلو عدد من المنار من مقال في هذا الموضوع؛ ووقفت إلى جانب حركة تحرير المرأة في نطاق الشريعة الإسلامية، وحاربت الدعوة إلى العامية، واستبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية، وهاجمت العادات السيئة التي تسربت إلينا من الغرب نتيجة الاتصال بهم، في الوقت الذي نادت فيه بضرورة مسايرة أوروبا في مجال العلوم الحديثة ومباراتهم في الصناعات والاختراعات.

انتشارها

صدرت المنار والناس في شوق إلى معرفة دينهم، وتطلع إلى التقدم والإصلاح، فلقيت ترحيبًا حذرًا في أول صدورها، وتوجست منها الدولة العثمانية لجرأتها في العرض، وتناولها موضوعات جديدة، فمنعت دخولها في بعض بلدانها، غير أنها أخذت طريقها تدريجيًا إلى الناس وزاد إقبالهم عليها، وكثر المشتركون فيها، وانتشرت في أنحاء العالم الإسلامي، وأصبحت طريقتها في الكتابة والتحرير نموذجًا تحتذيه كثير من الصحف الإسلامية، ولم يكد العام الثاني عشر من عمرها يمر عليها إلا وتدعمت مكانتها وتبوأت ما تستحق من مكانة وتقدير، وتنافس الناس في اقتناء أعدادها القديمة والجديدة، وبيعت الأعداد الأولى بأضعاف ثمنها.

وامتد تأثير المجلة إلى كثير من الأقطار الإسلامية، وصار لها مؤيدون ومحبون، كونوا مدارس فكرية في هذه الأقطار، وقد أشار إلى ذلك كتاب “وجهة الإسلام” الذي قام بتأليفه جماعة من المستشرقين على رأسهم هاملتون جب، فقال: “ولم يشرق منار الإسلام على المصريين وحدهم، ولكنه أشرق على العرب في بلادهم وخارجها وعلى المسلمين في أرخبيل الملايو الذين درسوا في الجامعة الأزهرية، وعلى الإندونيسي المنعزل الذي ظل محافظًا على علاقاته بقلب العالم الإسلامي بعد عودته لبلاده النائية.. وقد أصبح الذين اقتبسوا من نور المنار منارات صغرى في إندونيسيا بعد أن عادوا إليها…”.

ولم يكن استمرار مجلة المنار في الصدور أمرًا هينًا وسهلاً، بل صادفت صعوبات كثيرة، وأزمات مادية، ومنافسة من مجلات أخرى؛ وهجومًا من أعداء لها ضاقوا بفكرتها الإصلاحية ودعوتها التحريرية الواعية، ولم يكن الشيخ يملك جاهًا أو سلطانًا، بل كان يملك عقلاً واعيًا وقلبًا صادقًا، ورغبة ملحة في الإصلاح، وهمة عالية في الصبر والثبات ومواجهة الأزمات، ساعده ذلك على الاستمرار في صدور مجلته، وإن تعثرت أحيانًا عن الصدور شهرًا أو شهرين، لكنها لم تتوقف تمامًا حتى وفاته في (27 من جمادى الأولى 1354هـ=22 من أغسطس 1935م).

بعد وفاة مؤسسها

توقفت المجلة سبعة أشهر بعد وفاة الشيخ رشيد رضا، ثم أسندت رئاسة تحريرها إلى الشيخ “بهجت البيطار” من علماء سوريا المعروفين، فقام على تحريرها، وحاول إكمال التفسير الذي كان ينهض به الشيخ، فأتم تفسير سورة يوسف، ثم توقفت المنار مرة أخرى لمدة تقترب من ثلاث سنوات.

أحمد تمام


مصادر الدراسة:

  • أحمد الشرباصي: رشيد رضا، الصحفي، المفسر، الشاعر – مطبوعات مجمع البحوث الإسلامية – القاهرة – 1977م.

  • إبراهيم العدوي: رشيد رضا، الإمام المجاهد – الدار المصرية للتأليف والترجمة – القاهرة – بدون تاريخ.

  • أنور الجندي: إعلام وأصحاب أقلام – دار نهضة مصر – القاهرة – بدون تاريخ.

  • محمود منصور هيبة: الصحافة الإسلامية في مصر – دار الوفاء للطباعة والنشر – المنصورة – مصر – 1410=1990.

  • سامي عبد العزيز الكومي: الصحافة الإسلامية في القرن التاسع عشر – دار الوفاء للطباعة والنشر – المنصورة – مصر – 1413هـ=1992م.