حين نشأت الصحافة في مصر لم تكن لغتها فصيحة العبارة، صافية البيان، عربية الديباجة؛ وإنما كان يشوبها أخلاط من كلمات غريبة الوجه واللسان من مفردات فرنسية وإيطالية وتركية، وكانت أشبه بالوليد الذي يستخدم كل ما تسمعه أذناه من كلمات دون بصر أو تمييز، ولم تكن لغة الكتب المدرسية التي تترجم من اللغات الأخرى أو تؤلَّف لطلبة المدارس أحسن حالاً من لغة الصحافة المتردية.
وأثار هذا الوضع اهتمام الأديب الكبير والوزير المصلح “عبد الله فكري”، وهو يرى هذه الفوضى اللغوية التي تنهش صفحات الصحف والكتب، ويتسرب إليها سيل من الألفاظ الأجنبية؛ فارتفع صوته بأن توضع ألفاظ عربية مقابلة لها، تؤدي معناها، وأن يتولى ذلك جمعية علمية، ولا تترك لأهواء الأفراد من الكُتَّاب والمترجمين.
وبهذه الصيحة كان عبد الله فكرى من أوائل الداعين إلى تأليف المجامع اللغوية؛ للحفاظ على العربية، وصيانتها من الدخيل، ووضع ألفاظ جديدة لِمَا يستجد من مستحدثات. وكان قد سبق عبد الله فكرى في هذه الدعوة العلامة “أحمد فارس الشدياق”، الذي كان واسع المعرفة في اللغة، خبيرًا بأسرارها، متمكنًا من علومها.
غير أن هذه الدعوة الصالحة، التي أطلقها الأديب الكبير سنة (1299هـ= 1881م)، ضاعت أدراج الرياح، وعصفت بها أهواء السياسة، بعد فشل الثورة العرابية، وجثوم الاحتلال البريطاني على صدر البلاد، الذي لم يكن من مصلحته أن تقوم هذه الفكرة أو تصبح كيانًا يؤدي عملاً نافعًا.
الدعوة إلى العامية
وبعد الاحتلال البريطاني لم تقتصر المشكلة على الفوضى اللغوية القائمة من قبل؛ وإنما أضيف إليها هجوم شرس على اللغة العربية، وإصرار من المحتل على أن تكون لغة العلم في المدارس هي اللغة الإنجليزية، وارتفاع أصوات مشبوهة تدعو إلى الكتابة باللغة العامية، حمل لواءها “وليم ويلكوكس”؛ مهندس إنجليزي معروف كان يعيش في مصر، وقد دعا إلى الكتابة والتأليف باللغة العامية بدعوى أنها أقدر على إفهام الناس من العربية الفصحى، ثم اقترن القول لديه بالعمل؛ فترجم الإنجيل في هذه الفترة إلى العامية، وقام “محمد عثمان جلال” بنقل بعض المسرحيات الفرنسية إلى العامية؛ فاجتمع على العربية خطران: الدخيل من الألفاظ الأجنبية، والدعوة إلى العامية.
الدعوة إلى إنشاء مجمع لغوي
وأثار هذا الخطر الداهم على العربية حمية الغيورين على اللغة؛ فارتفعت أصواتهم مع بداية عهد الخديوي “عباس حلمي” سنة (1309هـ= 1892م) تنادي بضرورة إنشاء مجمع لغوي، يصون اللغة، ويعمل على إثرائها بما يضعه من ألفاظ جديدة، وكتب بعضهم في مجلة “المقتطف” يدعو إلى الفكرة، ويطلب من الجالس على العرش الوقوف بجانبها قائلاً: “إن اللغة العربية لم يعد يمكنها أن تجاري اللغات الأوربية ما لم يقم في البلاد جماعة كأعضاء الأكاديمية الفرنسوية، يتولون أمر التعريب، ووضع المصطلحات العلمية، وتنقية اللغة من كل وحشي ومهجور. وقد رأينا من قبل أن الأكاديمية الفرنسوية قامت ونجحت بتعضيد ملوك فرنسا لها، ورجونا أن يكون سمو عباس باشا عضوًا لهذا المجمع اللغوي، ونعيد الآن التماسنا؛ راجين من سموه أن يحله محل النظر ويشد أزر من يسعى إليه”.
والمعروف أن الأكاديمية الفرنسية هي أقدم المجامع اللغوية المعاصرة وأرسخها قدمًا، صدر أمر ملكي بقيامها سنة (1045هـ= 1635م)، وإن كانت قد تكونت قبل هذا التاريخ، ولقت دعمًا كبيرًا من “لويس الرابع عشر”؛ فمنحها جناحًا خاصًّا في قصر “اللوفر”؛ ليكون مقرًّا دائمًا لها، وعدد أعضائها أربعون، ولا تقتصر عضويتها على الأدباء واللغويين، بل انضم إليها العسكريون والسياسيون والعلماء ورجال الدين.
قيام مجمع البكري
ولقيت هذه الدعوة استجابة كريمة من رجالات العلم والأدب والفكر؛ فاجتمعوا في قصر السيد “توفيق البكري”؛ للنظر في قيام هذا العمل المثمر. والشيخ “البكري” هو واحد من أئمة الأدب، اجتمع له، مع عراقة الأصل والنسب، نبوغ في الأدب والشعر.
وقد ضمَّ الاجتماع الشيخ “الشنقيطي الكبير” أحد جهابذة اللغة الأعلام، والشيخ “محمد عبده” رائد الإصلاح في مصر، و”حمزة فتح الله”، و”حفني ناصف”، و”حسن الطويل”، و”محمد بيرم”، و”محمد المويلحي”، و”محمد عثمان جلال”، و”محمد كمال”.
وفي هذا الاجتماع، الذي تم في (21 من شوال 1309هـ= 18 من مايو 1892م)، ناقش الحاضرون الأخطار التي تهدد اللغة العربية، وضرورة إنشاء مجمع يؤدي للعربية ما تؤديه الأكاديمية الفرنسية للغتها، وانتخب الحاضرون “محمد توفيق البكري” رئيسًا لهذا المجمع، و”محمد بيرم” سكرتيرًا له؛ وبهذا أنشئ أول مجمع للغة العربية.
غير أن هذا المجمع الذي قام، لم يكن له قانون ينظم أعماله، ويحدد هدفه ورسالته، ويضع شروط الالتحاق به، وعدد أفراده، ولم يكن له خطة مرسومة سوى صيانة اللغة العربية، ووضع ألفاظ جديدة لِمَا استحدث في الحياة؛ لكنه على أية حال كان خطوة كبيرة على طريق الإصلاح، وتعاونا مثمرا على الأخذ بيد العربية.
جلسات المجمع
لم يعقد هذا المجمع سوى سبع جلسات ألقيت فيها بعض البحوث، ووضعت كلمات جديدة لمصطلحات أجنبية، وفي إحدى جلسات المجمع التي عقدت في (18 من رجب 1310هـ= 4 من فبراير 1893م)، ألقى البكري بحثًا عن “أخلاق المتنبي” من خلال أشعاره، ثم عرض ترجمة لعشر كلمات أجنبية سائرة على ألسنة الناس، شاركه في وضعها العالم اللغوي “حمزة فتح الله”، ومن هذه الكلمات: “مرحى” لكلمة “برافو”، و”مدرّة” لكلمة “أفوكاتو”، و”مسرة” لكلمة “التليفون”، و”بهو” لكلمة “الصالون”، و”قفَّاز” لكلمة “الجوانتي”، و”نمرة” لكلمة “نمرو”؛ فوافق الحاضرون جميعًا على هذه الترجمة.
ثم عقدت جلسة أخرى عقب هذه الجلسة في (1 من شعبان 1310هـ= 17 من فبراير 1893م) ألقى فيها محمد الويلحي الأديب الكبير كلمة في أغراض المجمع، وضرورة وجوده في هذه الفترة، ثم عرض ترجمة لعشر كلمات أجنبية، منها: “الطنف” للبالكون، و”الحراقة” لمركب التوربيد، و”بطاقة الزيارة” للكارت دي فيزيت، و”المعطف” للبالطو، و”الشرطيّ” لرجل البوليس، و”المشجب” للشماعة؛ ووافق الحاضرون على تعريب هذه الكلمات.
وقد أثرى المجمع وجلساته الحياة الثقافية في مصر، وطرحت على صفحات الصحف جلسات المجمع، وما توصل إليه أعضاؤه، ودخل في الميدان آخرون أدلوا بدلوهم فيما اقترحه المجمع الوليد، وكان “جورجي زيدان” واحدًا ممن انتقدوا ترجمة بعض الألفاظ الجديدة، واقترح هو بدائل لها، ودخل معه “عبد الله النديم” في مقارعة لغوية، فنَّد فيها رأي جورجي زيدان متفقًا في معظم ما أقره المجمع من كلمات.
وإذا نظرنا إلى الألفاظ القليلة التي وضعها المجمع، نجد أنه لم يُكتَب لكثير منها الحياة، ولكن يُحمَد له شرف المحاولة، وسبق المبادرة إلى إثراء اللغة وصيانتها من الدخيل؛ فكلمة “أفوكاتو” كانت أكثر الكلمات شيوعًا على الألسنة، فاقترح المجمع لها كلمة “مدرة”؛ فلم تعش هذه الترجمة، وبقيت الكلمة التي اقترحها جورجي زيدان بديلاً لها، وهي كلمة “المحامي”.
أما الكلمات التي وضعها المجمع وبقيت حتى الآن نستعملها في الخطابة والكتابة فهي “شرطي” في مقابل “بوليس”، و”بهو” في مقابل “صالون”، و”معطف” في مقابل “بالطو”، و”قفاز” في مقابل “جوانتي”.
نهاية المجمع
كانت الجلستان التي عرضنا ملخصًا لما دار فيهما آخر جلستين للمجمع، ثم أسدل الستار عليه بعد قيامه، وضاع الحلم الذي كان يطوف بخيال أهل اللغة والأدب؛ لأن الدولة لم تقف إلى جانبه وتؤازره، وأغلب أعضائه كانت تشغلهم ميادين أخرى تستنفد طاقاتهم وجهدهم؛ فصرفهم ذلك عن المتابعة والإلحاح في بث الحياة في المجمع الناشئ.
ويجدر بالذكر أن عبد الله النديم اقترح له مهامّ جيدة لم تجد طريقها للتنفيذ، وإن تحققت بعد ذلك فيما أنشئ من مجامع لغوية، ومن هذه المقترحات: إنشاء قاعة للخطابة والدروس، وإصدار مجلة شهرية، وتقديم جوائز للنابغين الذين يتقدمون إليه بأعمالهم.
وإن كان المجمع قد أغلق أبوابه فإن فكرته لم تمت، وظلت جذوتها مشتعلة في نفوس الغيورين من أهل الإصلاح، وقامت محاولات لإنشائه في القاهرة، مثل: نادي دار العلوم، ومجمع دار الكتب؛ لكنها لم تُكتب لها الحياة، وشاء الله (تعالى) أن يظهر أول مجمع للغة العربية في دمشق سنة (1337هـ= 1919م)، لا في القاهرة التي شهدت منبت الفكرة وتكرار المحاولة، ثم تبعه مجمع اللغة العربية في القاهرة سنة (1350هـ= 1932م)، ومجمع اللغة العربية في بغداد (1366هـ= 1947م)، ومجمع اللغة في عمان سنة (1396هـ= 1976م).
أحمد تمام5>
* مصادر الدراسة:
ماهر حسن فهمي: محمد توفيق البكري- دار الكاتب العربي للطباعة والنشر- القاهرة (1967م).
عمر الدسوقي: في الأدب الحديث- دار الفكر العربي- القاهرة (1347هـ= 1955م).
أنور الجندي: أعلام وأصحاب أقلام- دار نهضة مصر- القاهرة (بدون تاريخ).
محمد عبد الغني حسن: عبد الله فكري- المؤسسة المصرية العامة للتأليف- القاهرة (بدون تاريخ).
إبراهيم مدكور: مجمع اللغة العربية في عيده الخمسيني- الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية- القاهرة (1401هـ= 1981م).