قبل الحديث عن معركة العقاب نذكر بأن دولة الموحدين قامت في المغرب في القرن السادس الهجري على أساس دعوة دينية خالصة، تلتزم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتستهدف إقامة خلافة إسلامية تعود بالمسلمين إلى عهد الخلفاء الراشدين، وكان يقود هذه الدعوة الإصلاحية الشيخ “محمد بن تومرت”، وجمع حوله الأتباع إليه، ثم قام تلميذه “عبد المؤمن بن علي الكومي” بمتابعة دعوته، وتنظيم الأعوان، ودخل في صراع مع دولة المرابطين دام أكثر من خمسة عشر عامًا، إلى أن نجح في إحكام قبضته على المغرب الأقصى، ودخول مراكش عاصمة المرابطين في سنة (541هـ= 1146)، معلنًا شروق دولة جديدة، هي دولة الموحدين.
الموحدون بالأندلس
وبعد نجاح “عبد المؤمن بن علي” في إقامة دولته بالمغرب، وإرساء دعائمها، ووضع نظمها وقوانينها -اتجه إلى الأندلس لضمها إلى دولته، وتنظيم شئونها والدفاع عنها ضد هجمات النصارى، فنجح في ذلك، وأقام على قواعد الأندلس رجالاً من آل بيته.
وبعد وفاته سنة (558 هـ= 1163م) خلفه ابنه “يوسف” فاستكمل سياسة أبيه، ووطّد نفوذ دولته في الأندلس، وبعث إليها بالجيوش لتأمين ثغورها، وتقوية إماراتها. وفي إحدى غزواته فيها سنة (579 هـ= 1183م) أصيب بسهم عند أسوار “شنترين”، فرجع إلى مراكش مصابًا، وقضى نحبه بها سنة (580هـ=1184م).
بطل معركة الأرك
ولي “يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن” خلافة دولة الموحدين بعد أبيه، وتلقب بالمنصور، وكان قائدًا ماهرًا، وسياسيًا قديرًا، ورجل دولة من الطراز الأول، ويعد من أبطال المسلمين العظام في القرن السادس الهجري.
وقد أولى المنصور الموحدي عناية فائقة بالأندلس، وتأمينها ضد هجمات مملكتي قشتالة وليون المسيحيتين، واتخذ من عقد معاهدات الصلح معها سبيلاً إلى تحقيق الأمن في الأندلس، ثم اضطرته الأحداث إلى خوض المعارك ضدهما حين نقضا المعاهدات ونكثا بالعهود وهاجما أراضي المسلمين، وكانت معركة “الأرك” التي خلّدها التاريخ وكان هو بطلها الأول، ووقعت أحداثها في (التاسع من شعبان 591هـ= 18 من يوليو 1195م) عند حصن الأرك، وأسفرت عن نصر مؤزر للمسلمين، وانكسار حدة الهجمات النصرانية بعد أن خسرت القوات القشتالية نحو ثلاثين ألفا.
عناية بالأندلس
لم تقتصر عناية الموحدين بتوفير الأمن والحماية للأندلس وتقوية ثغورها وقواعدها، وإنما تعدى الاهتمام إلى الارتقاء بالأندلس والنهوض به، ورعاية مظاهر النهضة فيه، فأقام الخليفة “يوسف بن علي” بعض المشروعات في إشبيلية ، لعل من أشهرها بناء القنطرة على نهر الوادي الكبير، وتأسيس جامع إشبيلية الأعظم سنة (567 هـ= 1172م)، ثم أتمّ ابنه المنصور مئذنته الكبيرة سنة (584هـ= 1188م)، ولا تزال هذه المئذنة قائمة حتى الآن، وتعرف باسم “لا خيرا لدا” ويبلغ ارتفاعها 96 مترًا.
ما قبل موقعة العقاب
بعد هزيمة “ألفونسو الثامن” ملك قشتالة وليون في معركة الأرك عقد هدنة بين المسلمين والنصارى سنة (594هـ= 1198م)، غير أن تلك الهزيمة كانت تقض مضجعه، وتثير في نفسه نوازع الانتقام؛ فانتهز فرصة الهدنة في تحصين قلاع بلاده الواقعة على الحدود، ونبذ الفُرقة والخصام مع خصومه من ملوك النصارى، حتى إذا وجد في نفسه القوة نقض المعاهدة، وأغار على بلاد المسلمين، فعاث فسادًا في أراضي جيان وبياسة وأجزاء من مرسية.
ولم يكن أمام سلطان الموحدين الناصر “محمد بن يعقوب” الذي خلف والده المنصور بد من التجهيز والإعداد، لأخذ ملك قشتالة على يده، فاستنفر المسلمين للغزو والجهاد، فجاءته الجيوش من سائر أقطار المغرب الإسلامي، وعبر البحر إلى الأندلس في (19 من ذي القعدة 607هـ= 4 من مايو 1211م) ووصل إلى إشبيلية، وأقام بها لإعداد جيشه وتنظيم قوته، ثم تحرك في مطلع سنة (608 هـ= 1211 م) صوب مملكة قشتالة، واستولى على قلعة “شلطبرة” إحدى قلاع مملكة قشتالة بعد حصار دام ثمانية أشهر، ثم عاد بجيشه إلى إشبيلية بعد دخول فصل الشتاء رغبة منه في إراحة جيشه.
المعسكر القشتالي
ترك ألفونسو الثامن قلعة شلطبرة تقع في قبضة المسلمين دون أن يتحرك لنجدتها وإنقاذها، وصرف همه إلى استنفار أوروبا كلها ضد المسلمين في الأندلس، وبعث الأساقفة إلى البابا “أنوسنت الثالث” بروما يناشده إعلان الحرب الصليبية في أوروبا، وحث أهلها وشعوبها على السير إلى إسبانيا لقتال المسلمين، وعقد مؤتمرًا لتوحيد جهود الإمارات المسيحية في أسبانيا لقتال الموحدين، وأطلق صيحته المشهورة: “كلنا صليبيون”، فتوافدت على طليطلة جموع النصارى المتطوعين من كافة أنحاء المدن الأسبانية، يقودهم القساوسة والأساقفة.
وقد أثمرت جهود “ألفونسو الثامن” في استنفار أوروبا كلها ضد المسلمين، حيث أنذرهم البابا بتوقيع عقوبة الحرمان الكنسي على كل ملك أو أمير يتأخر عن مساعدة ملك قشتالة، كما أعلن الحرب الصليبية، وتوافدت جحافل الصليبيين من كل أنحاء أوروبا استجابة لدعوة البابا، واجتمع منهم نحو سبعين ألف مقاتل، حتى إن طليطلة لم تتسع لهذه الجموع الجرارة، فأقام معظمهم خارج المدينة.
تحركت هذه الجيوش الجرارة التي تجاوزت مائة ألف مقاتل تحت قيادة “ألفونسو الثامن” من مدينة طليطلة في (17 من المحرم سنة 609هـ = 2 من يونيو 1212م)، فاخترقت حدود الأندلس، وضربت حصارًا حول قلعة رباح، وكانت حاميتها صغيرة نحو سبعين فارسًا، دافعوا عن موقعهم بكل شجاعة وبسالة، واستنجد قائد الحامية “أبو الحجاج يوسف بن فارس” بالخليفة الناصر الموحدي، لكن رسائله لم تكن تصل إلى الخليفة؛ فلما طال الحصار، ورأى “ابن قادس” استحالة المقاومة مع فناء الأقوات وقلة السلاح، ويئس من انتظار وصول المدد، صالح ألفونسو على تسليم الحصن له، على أن يخرج.
طرف الموحدين
ولما علم الناصر بخروج الجيوش المسيحية المجتمعة خرج للقائهم، واستنفر الناس من أقاصي البلاد، فاجتمعت إليه جيوش كثيفة من القبائل المغربية والمتطوعة وجند الموحدين النظاميين، وجند الأندلس، وتألف من تلك الجموع الجرارة جيش عظيم بلغ نحو ثلاثمائة ألف مقاتل، وكان ممن وفد عليه بإشبيلية “أبو الحجاج يوسف بن قادس” قائد حامية رباح، فأمر الناصر بقتله دون أن يسمع حجته أو يحاط علمًا بملابسات التسليم، وأثار قتله غضب الكتائب الأندلسية على الخليفة الناصر الموحدي.
استعد كل من الطرفين للقاء، والتقيا في أحد الوديان بين جبال سير مورينا، وهضبة لينارس، بالقرب من بلدة “تولوسا”، ويطلق الأسبان على هذه الوديان اسم “نافاس”؛ ولذا عرفت الموقعة عندهم باسم “لاس نافاس دي تولوسا”، ويسمي المؤرخون المسلمون هذا الموضع بـ”العقاب”، نسبة إلى حصن أموي قائم بالقرب من المكان الذي دارت فيه المعركة.
وفي (15 من صفر 609 هـ= 17 من يوليو 1212م) نشبت المعركة بين الفريقين، وأقبلت مقدمة جموع الصليبيين الضخمة، فاجتاحوا الجند المتطوعة وكانوا في مقدمة الجيش، فأبادوهم عن آخرهم، وتمكنوا من الوصول إلى قلب الجيش الموحدي واشتبكوا معه، لكن القلب صمد لهذا الهجوم الجامح، ولاح النصر للمسلمين.
فلما رأى ذلك ملك قشتالة اندفع بقواته وقوات مملكتي ليون والبرتغال وكانت تمثل قلب الجيش الصليبي، واندفع وراءه ملكا “أرغون” و”نبرة” بقواتهما وكانا يمثلان جناحي الجيش، فأطبقا على الجيش الموحدي من كل جانب، فاضطربت صفوف الجيش، ولاذ الجند بالفرار؛ مما أربك أوضاع الجيش الذي استسلم للهزيمة القاسية.
وفر الناصر من ساحة القتال مع مجموعة من رجاله، وخسر المسلمون الألوف من المجاهدين في الأندلس، وعددا كبيرا من خيرة العلماء والفقهاء والقضاء، واستولى النصارى على معسكر الموحدين بجميع محتوياته من العتاد والسلاح والخيام والبسط والأقمشة والدواب. ولا تزال بعض أعلام الموحدين وخيمهم في معركة العقاب محفوظة في إسبانيا.
وقد فجع الموحدون بهذه الهزيمة القاسية التي راح ضحيتها الألوف من زهرة جنود المسلمين؛ مما أضعف دولة الموحدين، وأفقدهم هيبتهم وقوتهم. وبعد وفاة الناصر سنة (610هـ = 1213م) بدأ الضعف يتسلل إلى الدولة، ويتطرق إليها الخلاف والفرقة؛ مما أضعف الأندلس، وشجع النصارى على تصفية ما بقي للمسلمين من أرض، واختزلت دولتهم في مملكة غرناطة في جنوب الأندلس.
أحمد تمام باحث مصري في التاريخ والتراث5>
هوامش ومصادر:5>
أحمد بن خالد السلاوي: الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى ـ دار الكتاب ـ الدار البيضاء ـ المغرب ـ 1954م.
محمد عبد الله عنان ـ دولة الإسلام في الأندلس ـ عصر المرابطين والموحدين ـ القاهرة ـ (1384هـ = 1964م).5>
السيد عبد العزيز سالم ـ المغرب الكبير (العصر الإسلامي) ـ الدار القومية للطباعة والنشر ـ القاهرة ـ 1966م.5>
هشام أبو رميلة ـ علاقات الموحدين بالممالك النصرانية والدول الإسلامية في الأندلس ـ دار الفرقان ـ عمان ـ (1404هـ = 1984م)5>
عبد الله جمال الدين ـ تاريخ المسلمين في الأندلس ـ دار سفير ـ القاهرة ـ 1996 م.5>