إن معنى العبادة في الإسلام لا ينحصر في صلاة وصيام ونحوهما من مظاهر العبادة بل يمتد ليشمل حركة الحياة جميعا، قال سبحانه “قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ” آية 162 سورة الأنعام،
فالمسلم حياته كلها عبادة وطاعة لله عز وجل، فهو يتقرب إلى الله بالصلاة كما يتقرب إليه سبحانه بالسعي في طلب الكسب الحلال قال: -ﷺ- “إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها الصلاة ولا الصيام ولا الحج ولا العمرة، يكفرها الهموم في طلب المعيشة” حتى الشهوة التي يقضيها المسلم باب يؤجر عليه “وفي بضع أحدكم صدقة”. قالوا: يا رسول الله ! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال: “أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرا”.
ويتسع مجال معنى العبادة في الإسلام التي يثاب عليها المسلم حتى لا تدع شيئا في حياة المسلم قال –ﷺ- “ويؤجر المؤمن في كل شيء، حتى في اللقمة يرفعها إلى فيِّ امرأته.” فما أحوجنا أن نصحح مفهوم العبادة ونتعرف على الدور الذي أراده لنا الله رب العالمين حيث يقول: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ
يقول: فضيلة الدكتور محمد البهي –رحمه الله- عميد كلية أصول الدين سابقا:
العبادة في الإسلام تمثِّل تجربة رُوحيّة يخرج منها المؤمن ولديه الصلاحية كإنسان يعيش مع الآخرين في سلام وفى تعاون وتوادٍّ.
تستهدف العبادات من الصلاة، والزكاة، والحجّ، والجهاد في سبيل الله تصفية النفس الإنسانية والحيلولة بينها وبين اتباع الشرك والوثنية، وكذلك بينها وبين مباشرة الجرائم الاجتماعية من الفواحش والمنكَرات التي هي الزنا وهتك العِرض، وسرقة الأموال، وقَتْل النفس التي حرَّم الله قتلَها إلا بالحق.
تستهدف هذه العبادات كذلك ـ بجانب الحيلولة دون هذا كله ـ الحَدَّ من أنانية الذات في السلوك والتصرُّفات، وتقوية الإحساس الجماعيّ بالآخرين في المجتمع. حتى يخرج العابد عن طريق عبادته من دائرة الذات في نشاطه وأثر هذا النشاط في الانتفاع بما في هذه الدنيا من مُتع مادِّيّة، إلي دائرة المجتمع أو الأمّة أو الآخرين. فما يُصيبه من أرزاق فهو له وللآخرين، وما يقع من مآسٍ فعليه كما على الآخرين.
فالعبادات مجال تجريبي لتخريج الإنسان الصالح في الحياة الإنسانية. وهو ذلك الإنسان الذي يعيش لنفسه ولغيره معه. وهي مُستَهْدَفَة في الإسلام لهذا الغرض. وهذا يقضي بأن الإنسان الذي يقصر حياته على العبادة وحدها ولا يُباشِر عملاً آخر سواها بَقِيَ في نطاق التجربة ولم يخرج منها لحياة العمل والسعي في الدنيا. ومثل هذا الإنسان لا تُعرف صلاحيته في الإنسانية. أي لا يُعرَف عنه أنه هو ذلك الإنسان الذي يعيش لنفسه ولغيره معه. فهو كالطفل الذي بَقِيَ في طفولته، ولم يُختَبَر بعدُ في الحياة العامة، ليُحكَم على مدى رُشدِه في السلوك والتصرفات.
إن السعي في الحياة الدنيا لتحصيل الرِّزق فيها، وإن مباشرة الاستمتاع بمُتعتها المادِّيّة، وإن التفتيش في الأرض وفي جوِّها وسمائها وبِحارِها وجبالها ووِهادها، وإنَّ السير في مسالكها للوُقوف عليها ولتسخيرها.. كل ذلك هو الذي يُبرِز الإنسان العابد ويُحَدِّد مدى تأثُّره بالعبادة كمجال تجربة، ومدى صلاحيته في ارتباطه وعلاقته بالآخرين.
ويُروَى هذا الحديث عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ ﷺ ـ قال: “أمَا والله. إنِّي لَأَخْشاكُم لله “أكثركم خشيةً له” وأتقاكم له “أي أكثركم طاعة له”. ولكن أصوم وأُفطر، وأُصلِّي وأرقُد، وأتزوّج النساء. فمَن رَغِبَ عن سُنِّتِي فليس مِنِّي” (كتاب التاج: ج1 ص41).
ففي قول الرسول ـ ﷺ ـ على هذا النحو من أنه بجانب العبادة يمارس متعة أخرى من مُتَع هذه الحياة الدُّنيا، ما يدُلُّ على أن الأفضل للمؤمن الجمع بين العبادة لله ومباشرة الدنيا بما تتطلَّبه من مُتْعة أو عمل أو بحث وتفتيش. إذ الرسول ـ عليه السلام ـ هنا كما يصلِّي يباشِر راحة البدنَ في النوم، وكما يصوم يُباشِر متعة المَعِدة بالإفطار، ومتعة النساء بالزواج. ومع ذلك فهو المثل الأعلى للإيمان وفي صلته بالله.
إن العبادة طريق يوصِّل إلى الصلاحية والاستقامة في الحياة، والعمل في الحياة والسعي فيها والبحث في جوانبها العديدة هو التطبيق للكشف عن هذه الصلاحية. ولذا كانت الدنيا دار اختبار للآخرة. ولن تكون دار اختبار بالعُزلة عما فيها وعدم ممارستها.