بسم الله،والحمد لله،والصلاة والسلام على رسول الله،وبعد:
موضوع الغناء وآلات الموسيقى ممااختلف فيه الفقهاء حديثًا وقديمًا،وسيظل الفقهاء مختلفين فيه إلى أن يقوم الناس لرب العالمين،والذي يفتى به مع اطمئنان النفس له هو الموقف الوسط في ذلك ،وهو أن هذه الآلات إن اصطحبها مجون وفجور،فهي من المحرمات،وإن لم تكن كذلك،فلا يمكن الحكم عليها بالحرمة ،والذي نوصي به في حالات الإباحة هو عدم كثرة السماع،بل يملأ المرء قلبه بسماع القرآن ،ولكن لا مانع من سماع الغناء البريء،ولو بآلات الموسيقى المصاحبة لذلك بعض الأحيان،مادامت قد خلت من الشطط الزائد عن الحد،ولا يكن هذا الأمر مثارًا لاختلاف المسلمين،فلو كان فيه رأي واحد يجمع الأمة،هو الصواب بعينه،لاجتمع عليه الأسبقون ،ولكن حكمة الله اقتضت الاختلاف ،لاختلاف الناس وطبائعهم .
يقول الشيخ الدكتور أحمد الشرباصي الأستاذ بجامعة الأزهر (رحمه الله ):
هذا الموضوع قد اختلف فيه الفقهاء قديمًا وحديثًا، فمنهم من قال بأن استماع الموسيقى والأغاني حرام، ومنهم من قال إنه حلال إذا لم يقع معه إثم أو منكر أو فتنة، وقد يكون من الخير أن أذكر مثَلاً لقول القائلين بالتحريم، ومثلاً لقول القائلين بالحِلِّ، ثم نتعرف الطريق المعتدل في الأمر. جاء في كتاب “الاختيار شرح المختار” لابن مودود الحنفي ما نصه: ” واستماع الملاهي حرام، كالضرب بالقضيب والمزمار وغير ذلك “. قال عليه السلام: ” استماع صوت الملاهي معصية، والجلوس عليها فسق، والتلذُّذ بها من الكفر”. الحديث خرج مخرج التشديد وتغليظ الذنب، فإن سمعه بغتة يكون معذورًا، ويجب أن يجتهد ألا يسمعه، لمَا رُوي أنه عليه السلام أدخل إصبعيه في أذنيه حتى لا يسمع صوت الشبَّابة: وهي نوع من المزمار). وعن الحسن بن زياد: لا بأس بالدُّفِّ في العُرس ليشتهر ويُعلن النكاح. وسئل أبو يوسف: أيُكْرَهُ الدفُّ في غير العُرس(تضربه المرأة للصبي في غير فسق ؟ قال: لا. فأما الذي يجيء منه الفاحش للغناء فإني أكرهه.
وقال أبو يوسف في دارٍ تُسمع منها صوتُ المزامير والمعازف: ” ادخلْ عليهم بغير إذنهم؛ لأن النهي عن المنكر فرض، ولو لم يُجَز الدخول بغير إذن لامتنع الناس من إقامة هذا الفرض” اهـ.
وجاء في كتاب “الفتاوى” للشيخ شلتوت الحنفي ما نصه: “الفقهاء اتفقوا على إباحة السماع في إثارة الشوق إلى الحج، وفي تحريض الغُزاة على القتال، وفي مناسبات السرور المألوفة كالعيد والعرس، وقدوم الغائب وما إليها.
ورأيناهم فيما وراء ذلك على رأيين: يقرر أحدهما الحرمة، ويستند إلى أحاديثَ وآثارٍ، ويقرر الآخر الحِلَّ، ويستند إلى أحاديث وآثار، وكان من قول القائلين بالحل: “إنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا في معقولهما من القياس والاستدلال، ما يقتضي تحريم مجرد سماع الأصوات الطيبة الموزونة مع آلة من الآلات”. وقد تعقَّبوا جميع أدلة القائلين بالحرمة وقالوا: ” إنه لم يصح منها شيء…” اهـ.
و قد قرأت في هذا الموضوع لأحد فقهاء القرن الحادي عشر المعروفين بالورع والتقوى رسالةً عنوانها: “إيضاح الدلالات في سماع الآلات” للشيح عبد الغني النابلسي الحنفي، قرر فيها أن الأحاديث التي استدل بها القائلون بالتحريم على فرض صحتها مقيّدة بذكر الملاهي، وبذكر الخمر والقيْنات، والفسوق والفجور، ولا يكاد حديثٌ يخلو من ذلك، وعليه كان الحكم عنده في سماع الأصوات والآلات المطربة أنه إذا اقترن بشيء من المحرَّمات، أو اتُّخذ وسيلةً للمحرمات، أو أوقع في المحرمات كان حرامًا، وأنه إذا سلم من ذلك كان مباحًا في حضوره وسماعه وتعلُّمه وقد نُقل عن النبي ـ ﷺ ـ وعن كثير من الصحابة والتابعين والأئمة الفقهاء أنهم كانوا يسمعون ويحضرون مجالس السماع البريئة من المجون والمحرم، وذهب إلى مثل هذا كثير من الفقهاء.
وإذن فسماع الآلات ذات النغمات أو الأصوات الجميلة لا يمكن أن يحرم باعتباره صوت آلة، أو صوت إنسان، أو صوت حيوان، وإنما يحرم إذا استُعين به على محرم، أو اُتخذ وسيلةً إلى محرم، أو ألهى عن واجب.
وهكذا ينبغي أن يعلم الناس حكمَ الله في هذه الشؤون. ونرجو بعد ذلك ألا نسمع القول يلقى جُزافًا في التحليل والتحريم، فإن تحريم ما لم يحرمه الله، أو تحليل ما حرمه الله، كلاهما افتراء وقول على الله بغير علم: (قُلْ إنَّما حَرَّمَ ربِّيَ الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ والإثْمَ والبَغْيَ بِغَيْرِ الحقِّ وأنْ تُشْرِكُوا باللهِ ما لمْ يُنَزِّلْ بهِ سُلطانًا وأنْ تَقولُوا على اللهِ ما لا تَعلمونَ)0 (الأعراف: 33 ).
ومن هذا البيان يمكن أن نفهم القولَ الوسط العادل في هذا الموضوع، والله الهادي إلى سبيل الرشاد.
والله أعلم