يعتبر الدكتور إبراهيم أبو العيش – رحمه الله –  أحد النماذج المصرية الناجحة، ومن أشهر الخبراء العالميين في أبحاث علم الاجتماع الاقتصادي.. بدأ مشواره من نقطة الصفر بعد أن هاجر إلى النمسا منذ‏‏ 38 عاما، وتمكن من الحصول على الدكتوراه في مجال الأبحاث الدوائية، ثم قام بعمل عدة مشروعات ناجحة تعد نموذجا لأعمال القرن الحادي والعشرين؛ حيث يتكامل النجاح الاقتصادي مع التطور الاجتماعي والثقافي، ولذلك نال العديد من الجوائز من أهم المحافل الدولية ومنها  وسام “نوط الاستحقاق الأعظم” من الدرجة الأولى في ألمانيا ؛ وذلك لعمله في مجال التنمية الاجتماعية والاقتصادية.

نوط الاستحقاق الأعظم

يعد “نوط الاستحقاق الأعظم” الذي تقلده الدكتور إبراهيم أبو العيش أعلى وسام استحقاق ألماني، وكان أبو العيش قد حصل على أكثر من تكريم عالمي كان أبرزه حصوله على جائزة نوبل البديلة في مجال التنمية الاجتماعية عام 2003، وجائزة “كلاوس شواب” بالمنتدى الاقتصادي العالمي بعدها بعام واحد، كما تم تكريمه منتصف نوفمبر 2008 في بروكسل من قبل البرلمان الأوروبي كأحد رواد الأعمال الاقتصادية ذات المرجعية الأخلاقية في العالم، وهو أحد أبرز مؤسسي منظمة التجارة العادلة العالمية، وتم انتخابه كواحد من صفوة الخبراء الاجتماعيين من قبل “شواب فاونديشن” للمشاركة في المنتدى الاقتصادي العالمي، ومجلس مستقبل العالم الذي يضم في عضويته أبرز 50 شخصية من حكماء العالم‏.‏

ومن المعروف أن جائزة نوبل الأصلية تمنح منذ بداية القرن الماضي، ولها محكمون في مجالات علمية وإنسانية محددة كالطب، والعلوم، والسلام، ووجدت الهيئة المشرفة على الجائزة أن هناك أعمالا أخرى تمثل قيمة عالية للبشرية مثل مجال التنمية المستدامة لا تتطرق إليها الجائزة منذ 80 عاما، ولهذا قامت بالبحث عن أهم النشطاء في كل أنحاء العالم، وقام البرلمان السويدي -وهو أعلى سلطة في السويد- بتبني الفكرة التي توصل إليها “إكس كيورد” وبدأ بتمويلها، وأطلق عليها جائزة نوبل الجديدة للتنمية لأعمال القرن الواحد والعشرين.

وتم ترشيح أبو العيش للجائزة، وبعد تسلمه لها قام بتقديمها لمصر، وهي لا تختلف عن جائزة نوبل الأصلية في قيمتها المادية، ولا في الشروط الواجب توافرها للحصول على هذه الجائزة، ولها نفس المحكمين، وكعادة الإعلان عن جائزة نوبل صدر بيان صحفي في أستكهولم يوم ‏2‏ أكتوبر‏2003‏ ينص على أن لجنة التحكيم اختارت الدكتور إبراهيم أبو العيش لمنحه جائزة نوبل الجديدة؛ لجهوده في التنمية المستدامة، وذكر بيان اللجنة أنه استطاع أن يظهر كيف يمكن للأعمال الحديثة أن تمزج بين الربح والمشاركة في الأسواق العالمية وبين المنهج الإنساني الروحي للبشر واحترام البيئة الطبيعية، وقد رأت هيئة المحلفين في تجربته نموذجا لأعمال القرن الحادي والعشرين؛ حيث يتكامل النجاح الاقتصادي مع التطور الاجتماعي والثقافي، ويعززه، وقد أقيم حفل تقديم الجائزة له في قاعة البرلمان السويدي‏.‏

نبذة عن حياته

ولد أبو العيش في قرية مشتول السوق بمحافظة الشرقية عام ‏37‏، وتعلم في القاهرة، وبعد انتهائه من الثانوية العامة سافر إلى أوروبا للدراسة في عام ‏56 ‏وكان عمره 19‏ عاما، وبدأ بدراسة الكيمياء والطب بجامعة “جراتز” بالنمسا، وحصل على درجة الدكتوراه في علم الأدوية عام ‏69‏، ومنذ ذلك الحين دأب على إجراء الأبحاث الدوائية.

وتزوج وعمل بأوروبا حتى وصل لمركز مدير مركز بحوث، وتوفرت لديه فرصة جيدة للتعرف على الحضارة الأوروبية في العلوم والفنون، ولكن كان بداخله الشخص الشرقي المتمسك بدينه وجذوره وهويته طوال الوقت.

وبعد نكسة ‏67‏ ثم حرب ‏73‏ كانت هناك نداءات للرئيس السادات دعا المغتربين المصريين للعودة إلى مصر، واستثمر أبو العيش هذه الفرصة لكي يعود ويتعرف عن قرب عن حالة بلده الأصلي، وما يستطيع تقديمه لأهلها.

وعند قيامه بزيارة مصر مع أسرته منذ حوالي ‏25‏ عاما هاله ما تعانيه البلد من مشاكل ملحة في التعليم والزيادة السكانية فقرر العودة إلى مصر نهائيا،‏ وفي البداية قام بتكوين فكرة عن احتياجات البلد، ودرس حالة التعليم، والزراعة، والطب، والاقتصاد، وأصبح لديه تصور وخطة واضحة لما سيفعله‏.‏

يعشق أبو العيش “الإنسان” وبداخله إنسان متدين يعي ماذا يفعل، وهذا ما يحقق له الرضا، وأفكاره الفلسفية مستوحاة من الدين الإسلامي، فهو لا يمكن أن يشعر بالسعادة ما دام يرى شخصا جاهلا ومحتاجا، وتكتمل سعادته -كما يقول- حينما يرى كل أطفال مصر متعلمين، وكل الناس يعملون ولا يعانون من البطالة،‏ وهو متزوج من سيدة أجنبية رافقته في مشوار حياته منذ ‏40‏ عاما، وساندته في كل مشروعاته، وله ابن وهو حلمي أبو العيش، الذي يدير شركاته، وله ابنة تعمل مدرسة وهي متزوجة وتعيش في ألمانيا.

وأمنية الدكتور أبو العيش هي أن يحقق رؤيته الموجودة في فكره، ويؤدي رسالته على أكمل وجه، وهي توسيع نشاطه في البحوث، ولذلك قام بتأسيس جامعة حديثة للشباب سميت بأكاديمية “هليوبوليس”‏، وهى جامعة وليدة تتبع مبادرة “سيكم” للتنمية،‏ وتم الإعلان في الأسبوع الماضي عن جائزة مالية للبحوث العلمية تطلقها أكاديمية “هليوبوليس” للتنمية المستدامة بالتعاون مع مجلس الوزراء المصري، وتشمل تكنولوجيا الطاقة المتجددة، ومعالجة وإعادة استخدام المياه، والزراعة الحيوية، والصحة، والطب التكميلي، والطب البديل، وتكنولوجيا الهندسة البيئية.

“سيكم”.. ونوبل الجديدة

قام أبو العيش بعمل نموذج للمؤسسة الصحيحة للقرن الحادي والعشرين، واتخذ اسمها من أصل هيروغليفي يعني “الحيوية من الشمس” أو “سيكم”، وهي تعتبر أول كيان يقوم بتنمية أساليب الزراعة الحيوية في مصر، وهي تعتمد على أساس أن الزراعة الحيوية تقوم بتحسين التنوع الزراعي، ولا ينتج عنه مخلفات غير مستخدمة؛ حيث يمكن استخدام جميع الحاصلات الزراعية ومخرجاتها الناتجة عن هذا النظام الزراعي.

ويرى أبو العيش أن مشاكل مصر مرتبطة ببعضها، وتتضمن التضخم السكاني، والتلوث البيئي، وانخفاض مستوى التعليم، والرعاية الصحية؛ ولذلك فقد قام بإرساء نواة اجتماعية وحضارية للمساهمة في تحسين الصحة والتعليم والثقافة، واعتمد هذا المشروع على عدد من الجوانب المرتبطة، الجانب الأول: الجمعية المصرية للتنمية الحضارية، وهي مسئولة عن جميع النواحي الثقافية، وجمعية العاملين بالمشروع وهي مسئولة عن تنمية الموارد البشرية، ثم أنشأ مؤسسة حديثة تعتمد على المنتجات الزراعية المستحدثة، تلتزم بمسئوليتها نحو المجتمع واستدامة البيئة، وتتكون من 6‏ شركات:

الأولى: تقوم بإنتاج وتسويق المنتجات الصحية والمستحضرات الطبية النباتية‏.‏

الثانية‏:‏ تعمل مع مزارعين مستقلين لزراعة الفواكه والخضراوات والأعشاب الطازجة‏.

الثالثة‏:‏ تقوم بفرز وتعبئة الفاكهة والخضر الطازجة‏.

الرابعة‏:‏ تقوم بصناعة وبيع المنتجات الحيوية للأسواق المحلية وأسواق التصدير‏.

الخامسة‏:‏ تقوم بتصنيع وتعبئة المواد الغذائية التي نمت بالزراعة الحيوية‏.‏

السادسة‏:‏ تقوم بتصنيع الأعشاب والتوابل للبيع كمنتجات جاهزة ومواد نصف مصنعة.

وقد نمت هذه الشركات نموا ملموسا في العقد الأخير، وأصبحت ذات شهرة قومية ذائعة الصيت ورائدة في سوق المنتجات الحيوية والمستحضرات الطبية النباتية، وقامت بتقوية أواصر الصلة مع كثير من العملاء في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية في مجالات التصدير، وبالإضافة إلى ذلك فإن ‏55%‏ من مبيعاتها تستهلك في السوق المحلية، والتزمت مؤسسة أبو العيش بتشجيع الاختراع والتطور، والتزمت بتطبيق الطرق البيوديناميكية للتحكم في الآفات، ولتحسين عائد المحاصيل.

رائد الزراعة الحيوية والبيوديناميكية

يظل العائد الحقيقي الملموس في المجتمع المصري هو النشاط الذي تقدمه الجمعية المصرية للزراعة الحيوية، وهي منظمة غير حكومية لا تهدف إلى الربح، وقد أسسها أبو العيش عام ‏1990، وهي تسير بخطوات فعالة في أبحاث وتطوير الزراعة، وتقديم الاستشارات للمزارعين، وقامت هذه الجمعية بنشر نظام جديد لحماية زراعة القطن أدى إلى إلغاء رش المحاصيل الزراعية على مستوى مصر بالتعاون مع وزارة الزراعة.

وفي عام ‏2000‏ -وطبقا لتقارير الأمم المتحدة ومنظمة الفاو- تناقصت نسبة استخدام المبيدات الحشرية في حقول القطن المصري بنسبة تزيد على ‏90%‏ حيث كانت قبل الإلغاء تصل إلى ‏35000 ‏ طن، وارتفعت إنتاجية القطن الحيوي بنسبة ‏30%‏.

وعلى بعد ‏60 كم شمال القاهرة بالقرب من بلبيس تم إنشاء المزرعة الأم، وهي عبارة عن ‏300‏ فدان، وبعد التنفيذ الناجح لطرق الزراعة الحيوية في هذه المساحة بدأ الكثير من المزارعين بالانضمام إليها، حيث وصل حجم المزارعين اليوم إلى ‏800‏ مزارع من أسوان إلى الإسكندرية، يقومون جميعا بتطبيق التوجيهات العالمية للزراعة الحيوية على مساحة 8‏ آلاف فدان، ولهذا قام أبو العيش بتأسيس المركز المصري للزراعة الحيوية كجهة اعتماد للمنتجات والمزارع الحيوية، طبقا للمعايير والنظم الأوروبية الحديثة للزراعة الحيوية‏.

توفي الدكتور إبراهيم  في 15 يونيو 2017 م .


طارق قابيل – متخصص في علوم الوراثة الجزيئية والخلوية والتكنولوجيا الحيوية، عضو هيئة التدريس بقسم النبات –كلية العلوم– جامعة القاهرة..