كان من شأن معرفة أصول اللغة المصرية التي توصل إليها العالم الفرنسي “جان فرانسوا شمبيليون” أن نشطت حركة ترجمة الوثائق المصرية القديمة، وتقدمت الدراسات اللغوية، وانكشف ما كان غامضا من حياة القدماء المصريين، ثم ازدهرت الدراسات الأثرية باهتمام الجامعات والمؤسسات العلمية الأوربية بالآثار المصرية، وبدأت مرحلة الكشف عن الآثار وفتح المقابر وترميم المعابد وجمع أوراق البردي، واستتبع ذلك ظهور عدد من العلماء النابهين الذين شغفوا بالآثار المصرية وبذلوا جهودا مضنية في البحث والتنقيب وفي قراءة النصوص القديمة وترجمتها وتحليلها؛ حتى يتمكنوا بواسطتها معرفة معالم التاريخ المصري القديم.
ولما كانت مصر هي موطن تلك الحضارة المصرية ومثوى آثارها ومعابدها؛ قام العالم الألماني “هنري بروكش” (1243 – 1312 هـ = 1827 – 1894م) بفتح أول مدرسة للدراسات الأثرية بالقاهرة سنة (1286 هـ = 1869م)، ويعد هذا العالم الألماني من كبار الأثريين في العالم، ومن رواد اللغة الهيروغليفية، وله بحوث جيدة في تاريخ مصر وجغرافيتها القديمة.
وكان من بين طلبة هذه المدرسة العالم الأثري الكبير أحمد باشا كمال، أول مؤرخ عربي يكتب في تاريخ مصر وحضارتها القديمة كتابة علمية سليمة، وعلى يديه ظهر جيل من كبار علماء التاريخ والآثار، وصار رائد المدرسة المصرية في الدراسات الأثرية.
المولد والنشأة
ولد أحمد باشا كمال في (29 شعبان 1367هـ= 29 يونيو 1851م)، وقبل أن يلتحق بالتعليم النظامي تعلم القراءة والكتابة ومبادئ الحساب، وحفظ شيئا من القرآن الكريم، ثم التحق في سنة (1280 هـ = 1863م) بمدرسة المبتديان الابتدائية بالعباسية، ثم انتقل منها في سنة (1284 هـ = 1867م) إلى المدرسة التجهيزية التي تقابل الآن المدارس الثانوية، وتعدّ الطلبة للالتحاق بالمدارس العليا، ومكث بها عامين، انتقل بعدها إلى مدرسة “اللسان المصري القديم”، وهي المدرسة التي أنشأها العالم الألماني “بروكش” لدراسة الآثار واللغة القديمة؛ فدرس أحمد كمال بها اللغة المصرية القديمة والحبشية والقبطية وحذق في الفرنسة والألمانية والإنجليزية، وأتقن التاريخ المصري القديم.
في معترك الحياة
كان المفروض أن يلتحق أحمد كمال بعد تخرجه في المدرسة بمصلحة الآثار، ولكن ذلك لم يحدث فقد حيل بينه وبين العمل بالمصلحة التي كان يحتكر الأجانب العمل بها، فعمل أحمد كمال بوزارة المعارفمعلما للغة الألمانية بإحدى المدارس الأميرية بالقاهرة، ثم تركها وعمل مترجما للغة الفرنسية في وزارة المالية، ولكن شغفه بالآثار جعله يترك تلك الوظيفة عندما حانت أول فرصة للعمل بمصلحة الآثار، والتحق في وظيفة كاتب بعد أن أظهر عدم معرفته بالآثار، ثم لم يلبث أن شغل وظيفة مترجم ومعلم للغات القديمة بالمتحف المصري.
ولما خلت وظيفة أمين مساعد بالمتحف المصري تمكن من الفوز بها في سنة (1290 هـ = 1873م)؛ فكان أول مصري يتقلد هذا المنصب، وظل يشغله حتى اعتزل العمل سنة (1333 هـ = 1914م)، وإلى جانب ذلك كان يقوم بتدريس اللغة المصرية القديمة والحضارة المصرية في مدرسة المعلمين العليا وفي الجامعة المصرية الأهلية، واختير عضوا بالمجمع العلمي المصري والمجمع اللغوي الذي أسسه محمد توفيق البكري في سنة 1892م، والمجمع العلمي العربي بدمشق.
النشاط العلمي
تعددت جهود أحمد باشا كمال فشملت التنقيب عن الآثار وتخريج جيل من الأثريين والبحث والتأليف.
أما التنقيب عن الآثار، فله مساهمات عظيمة في الحفائر التي أجريت في عشرات من المواقع الأثرية وخاصة في مصر الوسطى، ونشر تقارير ضافية عن هذه الحفائر، وقام بدور رئيسي في العثور على مومياوات الفراعنة التي كانت مخبأة بالدير البحري بغربي طيبة.
وبذل جهدا كبيرا في عملية نقل آثار المتحف المصري وتنظيمه وترتيبه مرتين: الأولى عندما نقلت آثاره من بولاق إلى متحف الجيزة سنة (1308 هـ = 1890م)، والأخرى عندما نقلت من متحف الجيزة إلى المتحف الحالي بوسط القاهرة سنة (1318 هـ = 1900م)، ودعا إلى إنشاء المتاحف في عواصم الأقاليم المصرية فنجح في إنشاء متاحف في أسيوط والمنيا وطنطا.
وسعى لدى الوزير النابه “أحمد حشمت باشا” وزير المعارف لإنشاء فرقة لدراسة علم الآثار المصرية بمدرسة المعلمين الخديوية، فأنشئت أول فرقة، كان من بينها عدد من الطلاب صاروا بعد ذلك من كبار علماء التاريخ والآثار، مثل سليم حسن، وأحمد عبد الوهاب باشا، ومحمود حمزة.
وبعد تخرج الفرقة الأولى سنة (1331 هـ = 1912م) حاول أن يلحق بعض أعضائها بالمتحف المصري، ولكنه لم يوفق؛ بسبب العراقيل التي أقامها الأجانب في سبيل ذلك، فاشتعل خريجو هذه الفرقة بالتدريس، ثم نجحت مساعيه في تعيين ثلاثة منهم في المتحف المصري سنة (1331هـ = 1923م)، وتقرر إرسالهم إلى فرنسا وإنجلترا لإتمام دراسة الآثار هناك، والثلاثة هم: سليم حسن صاحب موسوعة “مصر القديمة”، ومحمود حمزة، وسامي جبرة.
وسعى لدى وزارة المعارف في إحياء دراسة الآثار في مدرسة المعلمين العليا، فأعادت الوزارة افتتاح فرقة دراسة الآثار واللغات القديمة بمدرسة المعلمين سنة (1342 هـ = 1924م) أي بعد وفاته، والتحق بها طلاب الشهادة الثانوية. ولما أنشئت الجامعة المصرية تقرر أن يكون من بين أقسام كلية الآداب قسم للآثار، ثم استقل بعد ذلك وصار كلية خاصة بالآثار.
ألف أحمد كمال عددا كبيرا من الكتب باللغة العربية والفرنسية، منها:
-“العقد الثمين في محاسن وأخبار وبدائع آثار الأقدمين من المصريين”، ويقع في 224 صفحة، تناول فيه تاريخ مصر الفرعونية بإيجاز، مع الاهتمام بالنواحي الحضارية.
-“الفوائد البهية في قواعد اللغة الهيروغليفية”، وهو كتاب كبير تناول فيه قواعد تلك اللغة وأصولها وطريقه كتابتها، وسار في تبويبه وتنظيمه على أسس قواعد اللغة العربية، وتناول في نهاية الكتاب خطوط اللغة المصرية ووضع قاموسا صغيرا للكلمات الهيروغليفية المهمة ومعانيها والنطق القبطي لها.
-“اللآلئ الدرية في النباتات والأشجار القديمة المصرية”، وهو معجم للنباتات القديمة، مرتب حسب الحروف الأبجدية، وبه أسماء النباتات باللغة الهيروغليفية، ومرادفاتها العربية والفرنسية.
-“بغية الطالبين في علم وعوائد وصنائع وأحوال قدماء المصريين”، ويقع في 584 صفحة من القطع الكبير، وهو مزود بثلاثمائة رسم توضيحي، تناول فيه علوم قدماء المصريين من طب وفلك ورياضية ونبات وحيوان.
-“ترويح النفس في مدينة الشمس والمعروفة الآن بعين شمس”، تناول فيه تاريخ المدينة وأسماءها القديمة ومعابدها، ومعبوداتها وآثارها وأطلالها الحالية.
-“الدر النفيس في مدينة منفيس”، وهو كتاب صغير تحدث فيه عن تأسيس المدينة في عهد مينا، وأسمائها القديمة وأقاليمها وتاريخها.
-“الحضارة القديمة في مصر والشرق”، وهو عبارة عن مجموعة المحاضرات التي ألقاها في الجامعة المصرية الأهلية.
وله بالفرنسية كتابان يدخلان في نطاق الفهرست العام للمتحف المصري الذي اشترك فيه عشرات العلماء، ولا يزال حتى الآن من أهم مراجع الآثار المصرية. كما قام بكتابه نحو ستين مقالا بالفرنسية تتناول بحوثا دينية ولغوية وجغرافية.
قاموس اللغة المصرية القديمة
ويعد هذا المعجم أهم ما كتبه أحمد باشا كمال من مؤلفات وأعظمها شأنا، ولكنه لا يزال مخطوطا لم ير النور بعد، ويقع في 22 مجلدا، ويجمع مفردات اللغة المصرية وما يقابلها بالعربية والفرنسية والقبطية والعبرية.
وهذا المعجم وليد فكرة ملكت المؤلف الحصيف، وهي أن هناك صلات بين اللغة المصرية القديمة واللغات السامية، وخصوصا اللغة العربية. وكان لتمكنه من اللغات المصرية والسامية أثر كبير في تتبع الفكرة وتأصيلها. وقد أشار إلى هذه الصلة في محاضرة له ألقاها في مدرسة المعلمين الناصرية سنة (1332هـ=1914م) حيث قال: “إن كثرة مطالعتي في اللغة المصرية القديمة منذ كنت في الثامنة عشرة من عمري إلى أن بلغت الستين مهّدت لي سبيل الوصول إلى اكتشاف غريب مفيد، ألا وهو أن اللغة العربية واللغة المصرية القديمة من أصل واحد، إن لم يكونا لغة واحدة افترقتا بما دخلهما من القلب والإبدال، كما حصل في كل اللغات القديمة.
وقد استغرق إنجاز هذا العمل عشرين سنة من العمل الجاد المضني، والبحث العميق، وأسفر عن 22 جزءا من القطع الكبير، وتجاوز بعض الأجزاء ألف صفحة، وتضمن كل جزء أحد الحروف الهيروغليفية، وقام منهجه على وضع الرسوم الهيروغليفية أولا ثم الحروف الصوتية فيها، ثم ما يقابلها في اللغة الفرنسية والعربية، وقد يعارضها باللغات الأخرى كالقبطية والحبشية والآرامية والعبرية. ومن أمثلة الكلمات المصرية القديمة ومرادفاتها من العربية كلمة: حنت، وهي الحنطة، وترا: ذرة، زت: زيت، زدتو: الزيتون.
ولما تقدم أحمد كامل إلى وزارة المعارف لطبعه قبل وفاته على نفقتها أحالت جزءًا منه إلى مدير المطبوعات وكان إنجليزيا، فأحاله إلى كبير الأمناء بمصلحة الآثار العالم الإنجليزي “فرث” لإبداء الرأي فأشرك معه عضوين: أحدهما أمريكي، والآخر فرنسي، وجاء رأي اللجنة مخيبا للآمال فلم تهتم الوزارة بطبعه، وأهمل عمل كان نشره سيدحض نظريات الاستشراق والتغريب التي تدعو إلى الفرعونية، وتباعد بين أصل جنس الشعب المصري والجنس العربي، ويكشف عن عراقة عروبة مصر على امتداد تاريخها الطويل.
وفاته
وبعد حياة طويلة حافلة بالعمل والدرس والتنقيب توفي أحمد باشا كمال في (22 من ذي الحجة 1341هـ = 5 من أغسطس 1923م).
أحمد تمام5>
من مصادر الدراسة:5>
أنور الجندي: أعلام وأصحاب أقلام – دار نهضة مصر – القاهرة – بدون تاريخ.
محمد جمال الدين مختار: أحمد كمال العالم الأثري الأول في مصر- مجلة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية – القاهرة – 1964.
زكي فهمي: صفوة العصر في تاريخ رسوم مشاهير وحال العصر- مكتبة مدبولي- طبعة مصورة عن الطبعة الأصلية القاهرة 1995م.
الزركلي: الأعلام- دار العلم للملايين- بيروت 1986م.